رئيس التحرير
عصام كامل

عبد المحمول !


تقول القصة، أي قصة، إن الديك الرومي كان محمولا على صينية كبيرة، مزينا بالألوان، وبشرائح البرتقال، وحلقات الليمون والجزر، بينما تهيأ جميع أفراد الأسرة لوجبة عشاء شهية. نزل الديك الرومي المشبوح وسط المائدة، منتظرا لحظة انقضاض الشوك والسكاكين والسواطير والأصابع عليه، تنهشه نهشا، وتمزقه تمزيقا، لكن انتظاره، طال، وطال، فأخذ يتفقد آكليه المرتقبين، بعيون مملوءة بالأرز البسمتي والدهشة معا، فلقد انغمسوا انغماسا عميقا، وانكفئوا انكفاءً مهينا، في أجهزة المحمول، بين الأكفّ، ولم يكترث به أحدهم، ولا حتى تحركت شهوته بفعل الروائح الشهية الفواحة. أحس الديك أنه أهين وأنه بلا قيمة فحلق بجناحيه وطار، مغادرا المائدة محزونا، على حال المصريين، وغيرهم من شعوب العالم، ممن سقطوا عبيدًا لعالم مخترع، بدلا من عالم حي !


ذلك بالضبط حالنا الآن، نحن البشر، في مصر، وفي كل الدنيا. دفن الناس عيونهم في الشاشات الصغيرة، واختزلوا العالم في رسائل خاطفة، على الفيس بوك، وعلى تويتر، وعلى الواتس، وانصرفنا حتى عن التليفزيون، الذي تراجع الآن إلى وضع الراديو، مجرد خلفية، نسمع منها أصواتا لمناظر من أفلام ومن أحداث، في برامج، بينما تركيزنا كله منصب على أربعة سنتيمترات في ثلاثة سنتيمترات، حافلة بالتوقعات والفيديوهات وصور الأصحاب وغرف الشات لممارسة الغرام والملام، ودعوات الترخص، والصور الإباحية، والآيات القرآنية والإنجيلية ! لا نكابر إن اعترفنا أننا، حتى في الأوقات التي نلقي فيها المحمول "زهقًا" منا، لا منه، وضيقًا بعبوديتنا له، سرعان ما تمتد إليه أصابعنا معتذرة، وتسحبه وتتصفحه، بحثًا عن رسالة إعجاب أو رد مرتقب، أو معلومة تافهة أو مهمة ! بعضنا يصحو ليلا لقضاء حاجة، فيجد نفسه، يفتح المحمول ليرى إن كان أحدهم، أو إحداهن، قد راسله !
لماذا هذا الهوس المفرط بالتكنولوجيا ؟!

أولا: لابد من القول إن ممارسة الانحناء للوسواس القهري بفتح المحمول وتصفحه هى عدوى، كالعطس، وكالضحك، وكالبكاء. انظر ماذا ستفعل حين ترى أخاك يلتقط محموله، ويتصفحه، ستجد يدك قلدته، وابنك وزوجتك وأختك، وضيفك، كلهم تخلوا عن بعضهم، واهتموا بأصدقاء غير موجودين إلا في عالم الخيال الإلكتروني. أناس بوسعهم، كما بوسعك، الاختفاء الفوري الداهم بمجرد لمس كلمة حظر أو بلوك ! التبليك أو الحظر، على الهواء، لا يسمح لأحد بمراجعة ولا نقاش ولا تسبيب، إنما هو قطع علاقة بساطور رخم بارد.لا يمكنك فعل ذلك مع إنسان أمامك، لحم ودم !

عبد المحمول هو باحث عن استثارة وجدانية، خاضع لفكرة التوقعات، علق حياته ورهنها، بردود أفعال الآخرين على ما يفعله.
لا يوجد أسياد في سوق النخاسة الإلكتروني هذا قط، فالكل رق رخيص، لوهم، لا يتجلى.
فلتسقط العبودية الجديدة !
الجريدة الرسمية