إعادة بناء العقل المصرى
العقل هو مناط التفكير والفهم والتأمل والتدبر والتقويم والمعرفة والإدراك والوعى. هو الجسر الذي يعبر بالإنسان من الكفر إلى الايمان، ومن التخلف إلى التقدم، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضعف إلى القوة، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الظلام إلى النور، ومن الغموض إلى الوضوح، ومن التخبط إلى الاستقامة، وهكذا.. وفى الإسلام، يحتل العقل مكانة كبرى، ولو أننا تتبعنا الآيات الواردة في القرآن والتي تذيلت بقوله تعالى: "أفلا تعقلون"، و"لعلكم تعقلون"، و"إن كنتم تعقلون"، و"لقوم يعقلون"، لوجدنا منها حشدا عظيما، دلالة على أن القرآن يطلب منا ويحثنا على التفكر، والتأمل، والتدبر، وإعمال العقل فيما يفيد..
ويتألق العقل بتوافر مناخ الحرية، فهى بالنسبة له كالماء والهواء والتربة الخصبة بالنسبة للنبات..الحرية هي الجناحان اللتان يستطيع العقل أن يطير ويحلق بهما في الآفاق الرحبة الواسعة.. كما أن نظام التعليم يؤثر عليه تأثيرا مباشرا، فهو إما أن يرتفع به إلى عنان السماء، وإما أن يهوى به إلى درك سحيق.. ويساهم الإعلام بوسائطه المتعددة هو الآخر، إما في إزكاء العقل وتطويره والارتقاء به، وتخليصه من مواريث الضعف والوهم والتخلف، أو العبث به وتسطيحه وتغييبه.
والحقيقة أن الشعب المصرى لحقته مآسي وكوارث كثيرة نظرا للاستبداد والفساد اللذين مارسهما نظام حكم مبارك خلال ٣٠ عاما، لكن أهم الكوارث وأخطرها على الإطلاق هي كارثة تخريب العقل المصرى، بحيث أصبح مغيبا، تافها، سطحيا، ضعيفا، واهنا، ممسوخا، ومشوها، وهو ما جعله غير قادر، لا أقول على الابتكار والإبداع، ولكن حتى على التفكير المنطقى البسيط..
في تلك الفترة، غشى علي المجتمع المصرى سحابات من التبلد والعقم الفكرى والثقافى، وهو ما أدى إلى التخلف العلمى والتقنى والحضارى، فضلا عن الفشل والعجز في كل أمور حياتنا؛ التعليم، والصحة، والزراعة، والصناعة، والإسكان، والنقل والمواصلات.. الخ. ناهينا عن تهميش دور مصر المحورى على المستويين الإقليمى والدولى.
نسى العقل المصرى أن له تاريخا، كان يحتل فيه مكان الصدارة والريادة لأمة العرب والمسلمين..لكنه الآن، فقد الثقة في نفسه وقدرته..صار مترددا، مهتزا، متذبذبا، متأرجحا.. ما إن تنشر مقالة في صحيفة غربية تنتقد بعضا من أحوالنا، بغض النظر عن مدى صدقها أو كذبها، موضوعيتها أو تهافتها، إلا ويصيبه الهلع والفزع. وما أن تصدر فكرة من كاتب غربى، بغض النظر عن خطئها أو صوابها، إلا ويقع أسيرا لها، يدور في فلكها، ويرددها كأنها الحقيقة المطلقة، والقول الفصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..وهذا في حد ذاته مأساة..
إن إعادة بناء العقل المصرى على أسس من الجدية، والعمق، والأصالة، ومحبة الوطن، والرقى بالمنظومة القيمية والايمانية والإنسانية الرفيعة - ثقافة وأخلاقا وسلوكا - والالتزام بالدستور، واحترام القانون، هو أمر ضرورى وحيوى. هذا البناء سوف يمثل القاطرة التي تشد خلفها السياسة، والاقتصاد والاجتماع والثقافة..الخ، علاوة على أنه السبيل الوحيد لتحقيق النهضة والتقدم.
ولاشك أن استعادة العقل المصرى لمكانته ودوره، سوف تؤثر إيجابا على استعادة العقل العربى لقدراته وإمكاناته، خاصة وهو يواجه تحديات شرسة وضارية، أمنيا وسياسيا وتنمويا وحضاريا..ومن هنا، كان لابد من اعتبار هذه القضية من القضايا المصيرية.. ويوم أن توضع على رأس اهتمامات الرئيس السيسي ومؤسسة الرئاسة، فسوف يكون للتاريخ مسار آخر.