استعادة التوازن في السياسة الخارجية
لعل قرار الرئيس "السادات" بعد توقيع اتفاقية "كامب دافيد" ومعاهدة السلام الإسرائيلية المصرية الابتعاد الكامل عن الاتحاد السوفيتى والاقتراب الشديد من الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة أقرب ما تكون إلى التبعية السياسية الكاملة أكثر قراراته بعدا عن التوازن المطلوب في السياسة الخارجية المصرية.
ونحن نقدر تمامًا أن "السادات" اعتبر التأييد الأمريكى له في محاولة تحقيق السلام مع الدولة الإسرائيلية بعد حرب أكتوبر مسألة بالغة الأهمية من الناحية الإستراتيجية حتى لا يعود الموقف من جديد إلى "لا حرب ولا سلام" إلا أنه ما كان ينبغى له أن يضحى بحليف إستراتيجي هو الاتحاد السوفييتي وقف بجانب الشعب المصرى في جرأة نادرة لتحرير الوطن من أدران الاحتلال الإسرائيلى، ولم يكتف بإمداد مصر بالأسلحة المتطورة بل إنه – لأول مرة في التاريخ العسكري السوفييتي، أرسل طائراته العسكرية التي يقودها طيارون سوفييت للدفاع عن الجو المصري الذي كان قد استباحه الطيران الإسرائيلي في غارات شنت على القاهرة ذاتها، واستجاب القادة السوفييت لطلب "عبد الناصر"، لكي يشارك الطيارون السوفييت في حماية الأجواء المصرية.
وهكذا أدى قرار الرئيس "السادات" بالدوران في محيط الولايات المتحدة الأمريكية إلى اختلال ميزان السياسة الخارجية المصرية.
وكانت زيارة "السيسي" الناجحة إلى الاتحاد السوفييتي بداية تصحيح ميزان السياسة الخارجية المصرية والتي زادها اعتدالًا الزيارة الناجحة التي قام بها الرئيس إلى الصين. فقد نجم عن هاتين الزيارتين المهمتين شراكات إستراتيجية بالغة الأهمية.
الشراكة المصرية الروسية تبدو أهميتها القصوى في مجالي التسليح والتنمية. فقد تم الاتفاق على أن تورد روسيا لمصر أنظمة أسلحة صاروخية بالغة التطور، ومن ناحية أخرى ستقوم بإعادة تأهيل وتحديث المصانع المصرية التي سبق للاتحاد السوفيتى أن شارك في إقامتها وفى مقدمتها مصنع الحديد والصلب. أما الشراكة الإستراتيجية مع الصين فهى بالغة الأهمية لعدة أسباب.
ولعل السبب الأول هو أن الصين -في عصر تحول النظام الدولى من نظام أحادية القطب إلى نظام متعدد الأقطاب- ستكون في مقدمة الدول التي ستتصدر النظام الدولى القادم.
ومن ناحية أخرى نجحت الصين في أن تكون في صدارة الاقتصاد العالمى بحكم تأسيسها لنظام اقتصادى تنافسى على مستوى العالم، لدرجة أن السلع الصينية المتنوعة أصبحت تنافس السلع الغربية منافسة شرسة في قلب الدول الغربية ذاتها مما يجعل الشراكة الإستراتيجية الاقتصادية بالغة الأهمية.
ولعل هذا هو الذي دفع بالرئيس "السيسي" -مخاطبًا رجال الأعمال الصينيين- أن موعدنا في شرم الشيخ. بمعنى أنه بعد استكمال المشروع العملاق لقناة السويس فإن باب الاستثمار العالمى سينفتح على مصراعيه، والدعوة موجهة للصين لأن تكون شريكا اقتصاديًا فعالا.
وإذا نظرنا إلى الجهود الدائبة التي بذلها الرئيس "السيسي" في مجال استعادة الدور المصرى في أفريقيا لأدركنا أن من أهم انجازاته في الواقع إعادة التوازن للسياسة الخارجية المصرية.
وهذه ليست عملية سياسية فقط مطلوبة لذاتها حتى لا نقع أسرى التبعية لدولة كالولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها عملية اقتصادية أيضًا في المقام الأول، لأنه سيترتب عليها فتح أبواب الاقتصاد المصرى لكل تجارب التحديث التكنولوجى في العالم بغير تمييز، وسيدفع ذلك قطار التنمية المستدامة في مصر إلى أبعد مدى.
وهكذا يمكن القول أنه في عصر العولمة تحتاج الدول إلى أن تفتح أبوابها للجميع بغير تمييز، بحكم أن السوق العالمى – بفضل الثورة الاتصالية- أصبح مجالًا للتفاعل بغير حدود ولا قيود.
غير أنه من الأهمية بمكان أن نلفت النظر إلى أن التوازن في السياسة الخارجية – رغم أهميته القصوى- لابد أن يكون جزءًا أساسيًا من رؤية إستراتيجية شاملة.
وهذه الرؤية الإستراتيجية – بحسب التعريف- معناها التخطيط طويل المدى الذي يشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية.
وهكذا لابد من تركيز الجهود على صياغة هذه الرؤية الإستراتيجية.