انهيار البيئة العمرانية
أكبر مصيبة ضربت شخصية المواطن المصرى ونالت من إحساسه بالانتماء، هي انهيار البيئة العمرانية، وإلا فتذكروا أيام المدينة المصرية عندما كانت في رونقها وجمالها، وكان المصرى يعتنى بهندامه وطربوشه النظيف لكى يتواءم مع بيئته العمرانية المميزة، وقتها شكّلَ إحساسه وتقديره للمكان رافدًا هامًا من إحساسه بالانتماء وحبه وإعجابه بوطنه.
حيث كان وسط البلد قطعة من باريس، وكانت هليوبوليس تمثل فراغًا حاويًا وحاضنًا لسكانه تضفى طابعًا خاصًا متميزًا يفرض مستوىً راقيًا من التعامل بين أفراده، وكان قصر البارون شاهدًا على تميز العمارة ومثلًا وضعه صاحبه لبيئة عمرانية عالية المستوى، وكانت المناطق الشعبية في مصر كالسيدة والحسين من وحى وإلهام التاريخ، حيث المبانى الحجرية والمشربيات والمقرنصات تقبع وسطها المساجد التاريخية الكبرى فتضفى إحساسًا بالأصالة وتستجلب قيمة تاريخ مصر وحجمها الحضارى الكبير، وكانت عمارة المكان تضفى طابعًا خاصًا على سكانه وتصنع كيانًا جمعيًا لهم في اتجاه قوة الوحدة المجتمعية.
فسمعنا المصرى يتغنى بالحى الذي نشأ به ويقيم فيه (ساكن في حى السيدة وحبيبى ساكن في الحسين)، فكان يربط كل أحاسيسه الراقية والجميلة بشخصية مكانه العمرانى، وكانت مصلحة المبانى الأميرية تضم خيرة المعماريين المصريين، تصون المبانى العامة وتقف حارسة للحفاظ على القيمة العمرانية وتصون الفراغ العمرانى وتعمق طابعه المتميز، وحتى القرية المصرية كانت مبانيها الوادعة مبنية من الطوب النيئ قليل التكلفة الذي يحافظ على اتزان المناخ صيفًا وشتاءً، ويستخدم ما يلقيه عليها فيضان النيل من كميات الطمى مادة للبناء.
كان الاتزان هو سمة المجتمع المصرى في كل شيء حتى حدثت الهجمة السكانية التترية نتيجة الاختلال الطبقى الكارثى للمجتمع، فانهارت البيئة العمرانية في مصر على مستوى الشارع والحى والمدينة، وضاع الطابع الذي كان يميز عمارة المكان، وتدهورت تبعًا له تركيبة الشخصية المجتمعية للمواطن المصرى التي كانت تشكل كيانه وانتماءه، وجنحت به في اتجاه العشوائية في كل اتجاهاتها.. وما نعانى منه الآن على مستوى الأمراض الاجتماعية هو نتيجة انهيار البيئة العمرانية بكل تأكيد.