رئيس التحرير
عصام كامل

الفلاحة لم تمُت!



عندما افتتح الخديو (إسماعيل) قناة السويس، تقدَّم له الفرنسى (فريدريك بارتولدى) بنموذج لتمثال يرغب في إقامته في مدخل القناة، والتي مَثَّلت حينذاك طفرة في طرُق النقل خاصةً بما تحمله من تأثير اقتصادى وأيضًا سياسي وكمان عسكري على مستوى العالم بأكمله، لا على مستوى مصر ولا حتى الشرق الأوسط فحسب!

هذا النموذج كان يُمَثِّل تمثال الحُرية الذي طار فيما بعد للولايات المُتحدة، بعدما رفض الخديو تنفيذ المشروع بسبب عدم وجود التكاليف اللازمة (التصميم والفكرة فرنسية والتنفيذ بفلوس مصرية)، يعنى باختصار تمثال الحُرية اللى حضرتك بتشوفه على مدخل نيويورك هذا كان المفروض يكون على مدخل قناة السويس عند بورسعيد!

المُهم أنه وتكريسًا ـ بالقصد أو بالسهو لفكرة الاستعمارـ وكون القناة ليست مصرية على الشكل الأمثل وقتها، وإنما هي ملكية عالمية مشاع، فقد تم وضع تمثال أخونا (فرديناند دليسبس) في مدخل قناة السويس من جهة الشَمَال، و(ديليسبس) كان هو مُهندس صفقة حفر القناة من البداية حتى النهاية تقريبًا، تلك القناة التي توفّى أثناء عملية حفرها قرابة مائة وعشرين ألف فلاح مصرى (يعنى الفكرة فرنسية والموافقة خيديوية والتنفيذ بدماء مصرية)!

لم يتوقَّف العدد عند ذلك بالطبع، وإنما امتد لحروب 56، و67، والاستنزاف و73، ليسقُط آلاف من الشُهداء دفاعًا عن القناة وسيناء ومصر، بينما تحرَّك التمثال المذكور من مكانه مرارًا حتى استقر به الحال في مخازن وزارة الثقافة أو وزارة الآثار أو وزارة الشباب والرياضة مش فارقة!

وعندما كتب أستاذنا الفاضل العظيم الراحل (نجيب محفوظ) روايته (ثرثرة فوق النيل) في وقت كانت مصر تُعانى فيه من نكسة ومشاكل وأزمات سياسية واقتصادية ومُجتمعية عديدة، أعلن وقتها على لسان بطل الرواية (أنيس زكى) / الفيلم (عماد حمدى) أن "الفلاحة ماتت ولازم نسلِّم نفسنا".. طبعًا كانت الفلاحة المقصودة هي مصر ببراءتها وطُهرها وظُلم أهلها لها وتجنيّهم عليها، والذي استمر بفساد ولا مُبالاة وأنانية حتى قُتِلَت الفلاَّحة، ولم يبق إلا تسليم الجُناة لأنفسهم، ولم يُسلم أحدهم نفسه بالطبع!

وفى الوقت الذي امتلكت فيه مصر مشروعًا قوميًا حقيقيًا ـ أخيرًا ـ وجادًا، وهو مشروع شق قناة السويس الجديدة الموازية، لم يتوقَّف الأمر عند شق القناة ودمتم، وإنما تم الإعلان -أخيرًا برضو- عن إقامة تمثال مصرى ضخم في المدخل الشمالى للقناة، تمثال يُمثِّل مصر وأهلها بحق، لا تمثال الحرُية ولا تمثال (دليسبس)، هذه المرَّة كان المصريون من الذكاء بمكان عندما اختاروا تمثال يُمثِّل الفلاحة المصرية!

إذن الفلاحة لم تمُت، فقط كانت مريضة لسنواتٍ طوال -نعترف- تخللتها أيضًا سنوات انتصار وعزَّة (حرب أكتوبر وانتصاراتها واستعادة سيناء والقناة نفسها معًا)، لكنها ظلَّت تقاوم حتى انتصرت واستعادت الوطن نفسه من براثن الإرهاب في ثورة 30 يونيو، ليبدأ تنفيذ أكبر مشروع مصرى حقيقى مُنذ بناء السد العالى، وهو مشروع قناة السويس الجديدة!

تمثال الفلاحة المصرية (التي لم تمُت ولن تموت) سيكون طوله 30 مترًا، وعرضه 80 مترًا، وتم تخصيص ثلاثة أفدنة كاملة لإقامته عليها، وسيكون بمقدور كُل رُكاب السُفن أن يروه بالعين المُجرَّدة ومن على بُعد عدة أميال نهارًا أو ليلًا لأنه سيجمع بين كونه تمثالًا وبين كونه فنارًا ساطعًا أيضًا، يشهد على عصر مصرى حقيقى جديد من النجاح بإذن الله، وللبعض: يُمكنك أن تغض عيناك عن مشاهدة التمثال، لكن الفنار مش مُمكن، اللهم إلا لو كُنت حضرتك أعمى، فهذه قصَّة تانية!
الجريدة الرسمية