حكاية «الجبلاوى».. «أولاد حارتنا»
على مسرح تكريم الأديب والروائى الراحل نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الآداب عام 1988، كانت الإشارة إلى روايته «أولاد حارتنا»، تلك الرواية التي تسرد حياة الأنبياء كما رآها «محفوظ» من وجهة نظره، محاولا التركيز على ما وصفه بـ «الظلم الإلهي»، الذي حلّ بالبشر وخصوصًا الضعفاء، منذ أن طرد الله آدم من الجنة وحتى اليوم.
«تواصل الظلم مع طرد الربُ، الذي أصبح عجوزًا لا يقوى على شيء، الأشرارَ يعيثون في الأرض فسادًا وينزلون أشد العقوبات بالضعفاء، كما أنه نسى وتناسى أن يعطى الفقراء نصيبهم من هذه الدنيا».. بهذه الأفكار وضع الكاتب الراحل انتقادات لاذعة لثورة 1952 بين سطور روايته، لتمر السنوات بين هجوم أزهرى ورفض للنشر داخل مصر، ثم الخروج إلى النور عام 2006.
«الجبلاوى وأبناؤه» كلمة السر في منع الرواية وتكفير كاتبها، فالأول هو «الله» وأبناؤه هم «الأنبياء»، خيال محفوظ ذهب به إلى مفاجأة أكثر جرأة بحديث الأبناء لأبيهم الجبلاوي، قائلين: «ما أهون الأبوة عليك، خلقت فتوة جبارًا فلم تعرف إلا أن تكون جبارًا، ونحن أبناؤك تعاملنا كما تعامل ضحاياك العديدين».
تمسكت جريدة الأهرام بتعليمات من رئيس تحريرها آنذاك الكاتب محمد حسنين هيكل،، بنشر «أولاد حارتنا» على صدر صفحاتها في سلسلة لكنها لم تُنشر في كتاب مجمع إلا عبر دار الآداب للنشر في بيروت عام 1962، وظلت محرومة من الطبع بمصر حتى عام 2006 بإصدار دار الشروق لها.
«ثورة 23 يوليو»
انحراف ثورة 23 يوليو 1952، من وجهة نظر نجيب محفوظ، دفعه للحديث عنها في روايته أولاد حارتنا، إلا أنه انتهج في كتابتها أسلوبًا رمزيًا يختلف عن أسلوبه الواقعى المعتاد.
في أحد حواراته الإعلامية، تحدث الكاتب المصرى الحاصل على «نوبل»، قائلا: «الرواية لم تناقش مشكلة اجتماعية واضحة كما اعتدت في أعمالى قبلها، بل هي أقرب إلى النظرة الكونية الإنسانية العامة».
مضيفًا: «روايتى لا تخلو من الخلفية الاجتماعية، فرغم أنها تستوحى من قصص الأنبياء إلا أن هدفها ليس سرد حياة الأنبياء في قالب روائى بل الاستفادة من قصصهم لتصوير تطلع المجتمع الإنسانى للقيم التي سعى الأنبياء لتحقيقها كالعدل والحق والسعادة»، وفقًا لرؤية محفوظ.
«هجوم مضاد»
تسببت «أولاد حارتنا» في أزمة كبيرة، منذ بدء نشرها على صفحات «الأهرام»، فهاجمها شيوخ الأزهر، وطالبوا بوقف نشرها، لكن «هيكل» ساند نجيب محفوظ، ورفض وقف نشرها، سنة 1959، قبل أن تتم طباعتها بلبنان وتهريب نسخ منها إلى السوق المصرية.
أما الشيخ عمر عبد الرحمن، المعتقل في السجون الأمريكية حاليًا، فاتهم الأديب العالمى بـ«الإلحاد والزندقة والُخروج عن الملة»، واصفًا إياه بـ«المرتد»، قائلا: «نجيب محفوظ مؤلف أولاد حارتنا مرتد، وكل مرتد وكل من يتكلم عن الإسلام بسوء فلابد أن يقتل، ولو كنا قتلنا نجيب محفوظ ما كان قد ظهر سلمان رشدى مؤلف آيات شيطانية».
وبالفعل ربط البعض بين كلمات الشيخ عبد الرحمن بمحاولة اغتيال محفوظ، إذ حاول شاب اغتياله بسكين في أكتوبر عام 1994.
«الله وأنبياؤه»
يبدأ «محفوظ» الرواية بقصة شخص يدعى «الجبلاوى فُهم حينها أنه يقصد به (الله)، كان كثير الحريم يسكن في بيت كبير فيه حديقة جميلة، ثم أنجب الجبلاوى أولادًا أكبرهم إدريس (إبليس)، تشابه ملحوظ في الأسماء، لكن إخوته رفضوا اختيار الوالد لأخيهم أدهم (آدم) ليدير الوقف تحت إشرافه، وجاء اعتراض إدريس لهذا القرار لكونه أكبر الإخوة سنًا وله حقوق ينبغى ألا تُهضم، وثانيًا لأنه وإخوته من أبناء هانم من خيرة النساء، أما أدهم فهو ابن جارية سوداء».
في روايته أيضًا، اعتبر الروائى العالمى الرسالات السماويّة الثلاث بمثابة سلسلة من حركات المقاومة الساعية إلى إقامة العدل ومنع الظلم والطغيان، إلا أنّ تلك المقاومة سرعان ما يزول أثرها بزوال الأنبياء المصلحين «موسى وعيسى ومحمد»، ورمز لهم نجيب بـ«جبل ورفاعة وقاسم»، قبل أن يتسلّط الفتوّات من جديد، ويعمّ الفساد، فآفة الحارة النسيان، بحسب «أولاد حارتنا».
لعل أكثر ما أثار الضجة في الرواية، حديث الكاتب عن الجبلاوى (الله)، ووصفه له بألفاظ رأى البعض أنها مثلت تطاولًا واضحًا، ومنها ما قاله «عرفة» عن نفسه بعد موت «الجبلاوي»: «إنه يجب على الابن الطيّب أن يفعل كلّ شيء، أن يحلّ محلّه، أن يكُوْنه»، بحسب ما جاء نصًا في رواية أولاد حارتنا.
ومن بين الأمور التي أثارت ضجة كبيرة، قول «قابيل» لأخيه: «أؤكّد لك أنّ جدّنا شخص شاذ، لا يستحقّ الاحترام، ولو كانت به ذرّة من خير ما جفا لحمه هذا الجفاء الغريب، إنى أراه كما يراه عمنا (يقصد إبليس) لعنة من لعنات الدهر، لقد نال هذه الأرض هبة بلا عناء، ثمّ طغى واستكبر»، وتضمنت الرواية هذه السطور.
راوى «أولاد حارتنا» يواصل حديثه عن الله: «أليس من المحزن أن يكون لنا جدّ مثل هذا الجد دون أن نراه أو يرانا؟!.. أليس من الغريب أن يختفى هو في هذا البيت الكبير المغلق وأن نعيش نحن في التراب؟!.. ولماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟.. لماذا كانت كبرياؤك أحبّ إليك من لحمك ودمك؟.. وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام كالحشرات؟.. والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار؟!.. هذا الأب الجبار، كيف السبيل إلى إسماعه أنيني؟ أيها القاسي، متى يذوب ثلج قسوتك؟!».
«إبليس»
تطرق نجيب محفوظ إلى قصة طرد إبليس من الجنة، فقال: «وواصل إبليس اعتراضه وصياحه حتى أغضب والده فطرده من البيت الكبير إلى الأبد ليخرج إلى الأرض الواسعة، ما أهون الأبوة عليك، خلقت فتوة جبارًا فلم تعرف إلا أن تكون جبارًا، ونحن أبناؤك تعاملنا كما تعامل ضحاياك العديدين».
«أهل الأرض»
أما أهل الأرض فهم «أهل الحارة»، بإشارته نصًا إلى «أن منهم البائع الجوال، ومنهم صاحب الدكان أو القهوة، وكثير يتسولون، وثمة تجارة مشتركة يعمل فيها كل قادر هي تجارة المخدرات خاصة الحشيش والأفيون والمدافع»، وفقًا لما جاء بالرواية.
وتابع: «وأخذ الأقوياء من أهل الحارة يعتدون على الضعفاء ويأخذون منهم الإتاوات، في حين بقى الأب حيًّا مغلقًا بابه معتزلا الدنيا».
ورغم أن الرواية أثارت جدلًا كبيرًا، وقوبلت بالرفض من جانب الكثيرين، وخصوصًا التيارات الدينية والأزهر الشريف الذي أكد أنه لا يجب السماح بتداول مثل هذه الروايات، معتبرًا إياها تمثل انتهاكًا صارخًا للذات الإلهية وتعديًا على المقدسات والرموز الدينية، حتى لو كان في إطار الترميز، إلا أن آخرين آمنوا بفكرة الرواية وحرية الرأى والتعبير، ودافعوا عن حق مؤلف الرواية في استخدام ما يشاء من رموز لتوصيل الرسالة التي يسعى إليها.
موجة الهجوم الشرسة التي تعرضت لها الرواية، لم تمنع من التنويه إليها عندما منح نجيب محفوظ جائزة نوبل، ما يؤكد تقدير العالم للأدب وحرية الإبداع، ويبقى الحكم النهائى على الرواية للقارئ الذي يحق له أن يكون وجهة نظره، كما يشاء.