إعلام "الهرتلة" والتغييب!
رغم أننا ندرك أن الإعلام يساهم بدرجة عالية في تشكيل الوعي، ويساعد على خلق عقل جمعي للأمة خصوصا في أوقات الأزمات، ورغم أننا ندرك الآن أن الإعلام صار سلاحا فتاكا ضمن أسلحة الجيل الرابع للحروب، بل يعتبر أهم الأسلحة على الإطلاق حيث تسقط بسببه أنظمة، وترتفع أنظمة، وبه تنقسم شعوب إلى فرق وطوائف وميليشيات، وتتوحد شعوب وتلتئم طوائف وميليشيات.
في حالات السقوط، وحالات البناء يكون الإعلام هو القاسم المشترك الأعظم.. هو من يسرع وتيرة السقوط، وهو من يدفع الوطن بكل عناصره نحو البناء والتقدم، وهنا تكون خطورة الرسالة الإعلامية التي يتعرض لها الفرد، ولأن الشاشات في عصرنا هذا صار لها بريق وسحر يأخذ بالألباب والقلوب بعد أن خاصم غالبية الجمهور القراءة وهجروا الكتاب فقد استحوذت الشاشات على العقول وتسللت إلى كثير من الثوابت التي شكلت وعي المواطن طوال سنوات عمره وأحدثت بها الكثير من العطب والخلل، وهيأت التربة لزرع أي أفكار فاسدة، فتبدلت أولويات الجمهور الذي بات يهتم بالتوافه من القول، ويكتفي بالسطحي من القضايا، ويسعى وراء الهلس وهرتلة الكلام ليغلق عقله بعد وجبة مسمومة من الأفكار والقضايا الفاسدة وينام مستسلما لعقله الباطن الذي يجتر كل ما شاهده طوال اليوم ليستيقظ في صباح اليوم التالي وكأنه كان في عالم آخر !
ما نشاهده على شاشات الفضائيات في برامج التوك شو في هذه المرحلة يدفعنا وبقوة لنطرح السؤال: هل ما يقدمه الإعلام يصب في مصلحة الوطن والشعب ؟ وما الرسالة التي يريد توصيلها للمواطن ؟!
في ظني – وليس كل الظن إثم – أن كثيرا مما يقدمه يصب في خانة تغييب المواطن ومن ثم تغييب المجتمع وصرفه عن قضية بناء مصر الجديدة أو دولة 3 يوليو بعد أن استعاد الشعب ثورته ووطنه من الاختطاف، وإلا ما معنى اهتمام برامج توك شو بالمتحولين جنسيا من ذكور إلى إناث والعكس في حلقات كثيرة، وما معنى برامج تبحث في زنا المحارم والعلاقات الجنسية !، وما معنى برامج تتناول حواديت الدجل والشعوذة والجن والعفاريت، وبرامج تفتح الشاشات بالساعات للملحدين !، وبرامج عن عمد تفتح الحوارات للطعن في الدين من غير ذي صفة وبعيدا عن أهل التخصص، وبرامج للرقص والإثارة الجنسية، وبرامج تفجر الفتنة الطائفية وتؤجج الصراع بين أطرافها، والكثير الذي تضيق به المساحة المتاحة للنشر !
هل يمكن أن يكون كل ذلك صدفة وفي وقت يحتاج الوطن إلى درجة عالية من اليقظة والوعي من كل من يعيشون على أرضه أم أن هناك هدفا ما مطلوب تحقيقه لعرقلة هذا الوطن عن السير قدما نحو الانطلاق للمستقبل المنشود ؟! هل يكون كل ذلك بعيد عما يحدث في المنطقة العربية كلها ؟! الإجابة متروكة لمن يقرأ السؤال ويجتهد في تجميع كل اللقطات المتناثرة ليشكل منها صورة تبدو واضحة لكل ذي عينين يرى بهما !
الذي يؤكد ما أشير إليه هو غياب شبه تام للإعلام الإيجابي الذي يبحث في الخير والجمال والتفاؤل ويلقي الضوء على مواطن القوة وعلى الإيجابيات التي تحدث في الوطن، والذي يعمل على كسر حالة الإحباط لدى الناس ليشيع مكانها حالة التحدي والصمود لبناء قدرة الوطن الذاتية التي تدفع باتجاه مصر الجديدة.. بدلا من تضييع الوقت والجهد في تفنيد حوارات تافهة وقضايا سطحية.
هل يدلنا أحد عن برنامج هادف للطفل، وعن برنامج هادف للشاب يعرف منه تاريخ وقدرة وطنه، عن برنامج ثقافي أو فني يرتفع بذوق المشاهد ؟! يكفينا برامج الطبخ ومسابقات ( الهشك بشك ) ومسابقات الجوائز التي تشجع على التواكل والمقامرة وتغييب المجتمع مع سبق الإصرار والترصد !