رئيس التحرير
عصام كامل

على طريقة المشايخ !


لما اقتحم "نابليون بونابرت" الجامع الأزهر، خاف المصريون على كتب الحديث، كما يحكي الجبرتي، أكثر من خوفه على الكتب الأخرى، استغرب الفرنسيون.. وتساءلوا عن سطوة "البخاري" الذي يتوسل به المسلمون لله.. فينسون كتاب الله، ويلجئون لواحدٍ كتب ما قيل إنه سنة رسول الله!


قرأ المصريون "البخاري" بدلًا من "القرآن"؛ فكان كتاب كتبه بشر عوضًا لهم عن كتاب أنزله الله في أوقات تفشي الأمراض.. أو في الكوارث!

كانت ملاحظة المستشرق الفرنسي "هنري كوربان" أيضًا مهمة؛ فالرجل ربط بين تغير أفكار المسلمين تجاه السنة النبوية، إلى الحد الذي جعل نفوذ ما قيل إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قاله من كلام.. تفوق سطوته أحيانًا كثيرة ما جاء به "القرآن الكريم" من أحكام.

"كوربان" قال: إن المصريين بهذا المنطق في الاعتقاد؛ أهلوا أنفسهم لاستقبال أفكار "الشيعة الفاطميين"؛ فسطع نجمهم.. وانتشرت عقيدتهم.. فعرف المصريون لأول مرة قصص "أولياء الله"، الذين كشف ربهم عنهم الحجاب؛ فماتوا.. ثم عادوا للحياة.. وسافروا فوق سجاجيد طائرة.. وساروا على الماء.. وتكلموا مع بعضهم البعض عبر الزمان والمكان!

أدخل الفاطميون للمصريين مفاهيم غريبة عن حب "آل البيت"، وحب أولياء الله الصالحين؛ فغالى المصريون في حب النبي، وآل النبي.. وأولياء الله ؛ فأقاموا الأضرحة.. وابتكروا قصصًا لأصحابها، ثم توسلوا إلى الله بأصحاب الأضرحة.. حتى نسوا الله.. وعبدوا أصحاب الأضرحة!

أغرق المصري البسيط في الميل للسنة النبوية؛ فأسهم إغراقه في أن ينسجم مع أفكار الشيعة بدعوى التصوف، وأصبح يعتقد في "خزعبلات" بحجة حب "آل البيت".. حتى ظهر متصوفة يعتقدون فيما لا يمكن أن يحسبه المسلمون على إسلام يؤمن بالله.. وملائكته.. وكتبه ورسله.. لا نفرق بين أحد من رسله!

يرى "كارل يونج" عالم النفس الشهير، أن "الارتجاج النفسي للمجتمعات؛ عادة ما يصاحبه اهتمام بطقوس الأفكار أكثر من مضامين الأفكار نفسها.

في الأزمات التاريخية والاجتماعية كانت السنة النبوية المطهرة عرضة لـ"الوضع" و"التحريف".. و"وسط الصراعات السياسية والاجتماعية؛ كانت السنة أكثر عرضة لـ"التزييف".. سواء بين المسلمين وبين بعضهم البعض صراعًا على الخلافة والحكم، أو بين المسلمين وغير المسلمين لفرض النفوذ.. والسيطرة.

بمرور الوقت؛ تحولت "السنة" إلى أساس الدين، مع أنها في علوم الفقه الإسلامي؛ لم تكن المصدر الرئيسي في التشريع. 

السبب ـ كما يرى البعض ـ أن اللعب بأقوال النبي؛ كان السبيل الأمثل للطعن على الدين.. من داخل الدين.. إضافة إلى أنها كانت أحيانا كثيرة طريقًا سهلًا لفرض نفوذ العرب على غير العرب، وسيطرة المسلمين على غير المسلمين.

ساعد التكوين الفكري لبعض المجتمعات الإسلامية، الذي كان قد تغير بحكم عوامل تاريخية على دخول أحاديث نبوية مشكوكٍ فيها، الصقت ـ مع الوقت ـ بصلب العقيدة؛ فقلصوا الدين، وعادوا غير المسلمين.. ثم أخذوا "الجزية" من أبناء بلاد فتحتها جيوش المسلمين، رغم دخول أبناء تلك البلاد الإسلام!

كان مثيرًا أن يأخذ المسلمون "جزية" من المسلمين.. بالحديث النبوي، وقتما لم تتوافر القدرة ولا الرغبة في إخضاع "السنن المزعومة"، و"الأحاديث الموضوعة " لإعادة التقييم؛ ما جعلها "معلومة من الدين بالضرورة".

بالوقت باتت المشكلة الكبرى التي تواجه "الإسلام".. كم السنن والأحاديث والقصص والأخبار غير المؤكدة، التي اشتهرت عن النبي؛ فحولها التراث إلى مسلمات لا تحتمل التأويل أو الرفض.. مع أن كثيرًا منها كان يجب أن يُترك.. فانتشرت "سنن" عززت الفجوة بين المسلمين وغير المسلمين، وتداول المسلمون أوامر نبوية أسست "عنصرية" من نوع ما بين العرب وغير العرب.. وبين المسلمين وغير المسلمين أيضًا!

النتيجة أن ظهرت طائفة "المشايخ"، ثم جاء "الدعاة" الذين كانوا تطورًا طبيعيًا لفئة الكهنة المسلمين؛ فغالوا في الحلال وفي الحرام.. قبل أن تطرح في "الأوكازيون" أحاديث نبوية عن فضل "الذباب" لو وقع في إناء المسلم، ومكارم أكل "البقدونس".. وفوائد "بول الإبل"!!

حتى صورة النبي نفسه تغيرت في الذهنية الشعبية للمسلمين، فأضافوا لشخصه (صلى الله عليه وسلم) ما لم يضفه الإسلام؛ فقالوا إنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعلم الغيب، وإنه (صلى الله عليه وسلم) كان يُوحى إليه منذ ميلاده حتى وفاته.. وقالوا إن الملائكة اختطفوه صغيرًا.. ففتحوا قلبه وأزالوا منه "نقطة الدنيا السوداء"، وإمعانًا في الكارثة، اعتقد كثيرٌ منا أن بوله (صلى الله عليه وسلم) كان مصدرًا لشفاء الأمراض!!

كانت أزمة اجتماعية شديدة.. وأزمة دينية أيضًا 
الأزمات في عمر المجتمعات لا تحسب بالأشهر؛ إنما يحسبونها بمئات السنين؛ لذلك، وبعد مئات السنين.. عرف المسلمون "الطب النبوي"، وحولت طوائف المشايخ وصفاتها العلاجية بالسنة إلى مادة سريعة الانتشار على شاشات الفضائيات.

واختزل "المشايخ" الإسلام في أحكام جماع الرجل وزوجته، وأدعية دخول دورات المياه، وجعلوا لها أحكامًا ومحظورات.. فرووا فيها الأحاديث.. قبل أن يختلفوا في أسانيدها ورواتها.. إلى أن فسر أحدهم الأحلام.. بكتاب الله وسنة رسول الله.. وصدقنا!!

ضيقوا الدين 
اختصروه؛ فتركوا "الحقوق" و"المعاملات"، وصدروا قضايا "الحيض" و"أصول الجماع" وأحوال "المستحاضة"، حولوه إلى معجزات في الشفاء بـ"بول" النبي، ونبوءات القرآن في فوائد "البقدونس".. وجعلوا منها دليلًا على "ربانية الإسلام".. وتأكيدًا لــ"تنزيل الرسالة من رب العالمين"!!

أحبوا النبي، فأثبتوا قداسته.. بقدرة بوله على الشفاء، وتكلموا عن سوابق بول إبله (صلى الله عليه وسلم) في علاج الأمراض بأحاديث "مرفوعة"!! 

"المرفوع" من الحديث؛ هو ما ينتهي سند رواته إلى قول للنبي ـ صلى الله عليه وسلم، ولدى علماء الحديث أن "المرفوع" صحيح.. يقيني، يحسب على قول النبي (صلى الله عليه وسلم).. بلا جدال!
مصيبة.
Twitter: @wtoughan
wtoughan@hotmail.com
الجريدة الرسمية