رئيس التحرير
عصام كامل

"جورجي زيدان" من صانع أحذية إلى أديب ومؤرخ.. تربى في أسرة لبنانية فقيرة.. نبغ في اللغات والأدب والطب.. توجه لمصر وأسس مجلة "الهلال".. تفرغ لدراسة تاريخ الإسلام واتهم بتشويهه.. وعشق كتبه حتى مات بينها

الكاتب جورجي زيدان
الكاتب جورجي زيدان

شب الصبي في أسرته الفقيرة المسيحية، وبمجرد أن عرف القراءة تمسك بالعلم والأدب، تاركا كل المهن التي عرفها ليسير في دربه، ويصل إلينا برواياته ومؤلفاته التاريخية التي عبرت السنوات لتصل إلينا مخلدة ذكراه، إنه الأديب والروائي والمؤرخ اللبناني جورجي زيدان الذي يتزامن اليوم مع ذكرى ميلاده.


الظروف القاسية
فتح جورجي زيدان عينيه، وبدأ إدراكه يتفتح ليجد نفسه في أسرة لبنانية فقيرة تعيش في عين عنب بجبل لبنان، تسعى إلى لقمة العيش، وفي ذات الوقت لا تبخل على ابنها بالتعليم، كان أبوه رجلا بسيطا أميا يمتلك مطعما صغيرا تتردد عليه مجموعة من الأدباء وطلاب الكلية الأمريكية، فتأثر بهم وأراد تعليم ابنه أساسيات القراءة، فأرسله لمدرسة لتعلم القراءة والحساب حتى يدير معه شئون مطعمه.

نبوغه
لكن الفتى كان متفوقا، لا يكتفي من العلم مما شجع والده على إرساله لمدرسة الشوام حيث تعلم اللغة الفرنسية ومن بعدها الإنجليزية، لكن ظروف الأسرة لم تسمح بالمزيد، فبدأ الفتى في العمل مع والده بالمطعم، في الوقت الذي لم تقبل الأم أن يكون للابن نفس مصير الأب، وأرادت تعليمه حرفة أخرى وكانت "صناعة الأحذية"، وبالطبع لم تكن هذه الصنعة مرضية للفتى الذي تعلق بالأدب والعلم، فتركها بعد عامين، وساعده حبه للعلم وعلاقاته برجال الصحافة والأدب وخريجي الكلية الأمريكية، على الالتحاق بامتحانات كلية الطب والتي نجح بها، والتحق بالكلية، وبعد عام من الدراسة قرر السفر إلى مصر لاستكمال دراسة الطب.

دراسة الطب
وظل الشغف بالأدب والكتابة يطارده، واجتمع مع فقره وحاجته للمال، فحالفه الحظ إلى جانب موهبته للعمل في جريدة "الزمان"، ثم ساعدته لغاته على العمل كـ"مترجم" بمكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة، وعاد لبيروت فتعلم بها اللغات العربية والسريانية، فألف كتاب "تاريخ اللغة العربية"، وزار إنجلترا، ثم عاد ليستقر في مصر بعدها، واستقر على ما تهواه نفسه وظل يبحث عنه طيلة حياته، وامتهن التأليف والترجمة.

مجلة الهلال
إصرار زيدان على النجاح، وثقته بقدراته الأدبية، دفعاه لتأسيس مجلة "الهلال" التي صدر العدد الأول منها عام 1892، والتي كان يديرها ويحررها بنفسه، ثم ساعده فيها ابنه اميل، وفي خلال خمس سنوات أصبحت الهلال من أوسع المجلات انتشارا، ويكتب بها عمالقة الفكر والأدب، ورأس تحريرها عدد كبير من الأدباء والكُتاب مثل أحمد زكي وحسين مؤنس وعلي الراعي وصالح جودت وغيرهم، في حين تفرغ زيدان لكتبه ومؤلفاته، بعد أن أسس ذلك الصرح الثقافي والمعرفي.

التاريخ الإسلامي يجذبه
رغم أنه مسيحي ونشأ في أسرة مسيحية، إلا أنه لم يستطع تجاهل التاريخ الإسلامي الذي يحيط به في بلاده وفي المنطقة بأكملها، وكان لزيدان نظرة واسعة للتاريخ، فقد كان يرى أن تاريخ الإسلام هو تاريخ الشرق الحديث، بل وتاريخ العالم كله خاصة بعد انقضاء حضارة الفرس والروم، ولذلك تفرغ لدراسة تاريخ الإسلام والفتوحات الإسلامية، وأصدر كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي".

وقد أهلته معرفته بالتاريخ الإسلامي لانتدابه لتدريس مادة التاريخ الإسلامي في الجامعة الإسلامية، فور إنشائها عام 1908، ولكن التعصب الديني الذي كان يشعل ناره الاحتلال الإنجليزي في ذلك الوقت، وكون زيدان مسيحي الديانة حال استمراره في تدريس التاريخ الإسلامي، فاكتفى بروايته وكتبه التي تؤرخ له.

ورغم هذا لم يسلم زيدان، فظلت مسيحيته وحبه للتاريخ الإسلامي يطاردانه، فكثرت الاتهامات والشبهات حوله بأنه يعمد إلى تشويه التاريخ الإسلامي من خلال رواياته التاريخية التي كان دائما ما يمزجها بقصة حب رومانسية، وذلك ليقربها إلى الجمهور ويسهل عليه قراءة التاريخ، كما كانت ترجمة كتب وروايات زيدان إلى لغات أخرى سلاحا ذا حدين، حيث استغله المشككون فيه لتأكيد اتهامه بالإساءة للإسلام، فكانت كتبه ورواياته تُترجمان منذ صدورهما لأول مرة إلى الفارسية والتركية وعدة لغات أوربية، وبرروا ذلك بأنه مخطط من الغرب والمستشرقين لنقل صورة خاطئة عن الإسلام، مستشهدين بروايته "العباسة أخت الرشيد أو نكبة البرامكة"، مشيرين إلى أنه شوه فيها سيرة هارون الرشيد، وجرح فيها بأخته العباسة بنت المهدى، وأفصح فيها عن نزعته الشعوبية، وتعاطفه مع الأقليات.

الموت بين الأحبة
ولزيدان العديد من المؤلفات، منها: "العرب قبل الإسلام، تاريخ التمدن الإسلامي، تاريخ الماسونية العام"، ومن رواياته "فتاة غسان، عذراء قريش" وغيرهما من عشرات المؤلفات التي عشقها زيدان حتى مات فجأة بين كتبه وأوراقه ومؤلفاته عام 1914، ورثاه عدد كبير من أدباء عصره، على رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران.



الجريدة الرسمية