رئيس التحرير
عصام كامل

قل «هدية» ولا تقل «رشوة»

محمود الاعرج كاتب
محمود الاعرج كاتب صحفي وباحث في الشئون البرلمانية

سيذكر التاريخ أنه كانت هناك دولة فشلت في القضاء على الفساد، فأصدرت له قانونًا يجيزه، ويجعله أمرًا مألوفًا بل وحتميًا إذا لزم الأمر.. فإذا أردت أن تمرر مصالحك بسهولة ويسر ودون مشقة فعليك أن تدفع أولًا لتنهي خدماتك في المصالح الحكومية.

وطبقًا للقانون المزمع اقراره في هذه الدولة إذا كنت موظفًا عامًا، فمن حقك أن تحصل على رشوة "رمزية" لاتزيد عن 300 جنيه، وهى التي يطلق عليها القانون نفسه "هدية"؛ ولكن في حالة زيادة قيمتها عن هذا المبلغ فعليك أن تقدمها لمرؤسيك للتصرف فيها، وإلا فستعرض نفسك بذلك للمساءلة القانونية وتضع نفسك تحت طائلة القانون.

باختصار شديد أتحدث عن قانون الخدمة المدنية الجديد والذي أشار إلى بنوده وزير التخطيط المصري في مؤتمر صحفي، وقال:"إنه يتضمن قبول الموظف العام لهديا رمزية لا تزيد عن 300 جنيه ولو تجاوزت القيمة لابد من إرجاعها لوزارة المالية بهيئة الخدمات الحكومية ويتم عمل مزاد عليها لبيعها ".

وإن كان من السهل على الحكومة أن تمرر ذلك الأمر بشكل قانوني، إلا أن تصريحات الوزير المخضرم ليست بالهينة، وليس من السهل تجاوزها أو التغاضي عنها أو حتى أن تمر مرور الكرام، فحسب علمنا أن المواطن الذي يتقدم بهذا الشيء إما أن يكون طالبًا لشيء ممنوع، أو ارتكب مخالفة ويريد من الموظف الحكومي أن يتستر عليها، وإما أن يكون ذلك ابتزازًا من الموظف نفسه في محاولة لتحسين دخله بطريق غير مشروع، وهو ما كان يطلق عليه قديمًا "اكرامية" أو "الشاي"، فالطبيعي هنا أن تكون الهدية في نظير خدمة، وليس على سبيل "تهادوا تحابوا".

تصريحات الوزير حول هذا القانون ستفتح على بلادنا "طاقة" من جهنم، وكالعادة الخاسر الوحيد هنا سيكون هو المواطن البسيط، الذي اعتاد أن يتحمل كافة أخطاء حكومات مصر المتعاقبة، والذي وحده يدفع الثمن، ويعاني من الفساد المستشري في المصالح والهيئات الحكومية، التي تجبره الظروف ليتعامل معها، فأصبح لزامًا عليه تقديم رشوة أو "هدية" كما أطلقت عليها الحكومة.

فالسؤال الآن.. هل كانت تصريحات الوزير بمثابة رسالة حملها من الحكومة للمواطن البسيط بأن "اللى معاهوش ميلزموش؟"،.. أم أنها رسالة منها للفاسدين بأنه أصبح من السهل تمرير تجاوزاتكم والتغاضي عنها وفقًا لقانون جديد؟.. أم أنها تكليف للموظف الحكومي بأن يقوم بأعمال غير منوطة له ومهام أخرى غير التي يتقاضي عنها راتبه مقابل الحصول على هدايا من المواطنين؟.. أم أنها تكليفًا جديدًا له بقهر المطحونين والذين يجب أن نقف أمام مراكبهم التي تسير؟.. أعتقد أن التساؤلات كثيرة، ولكنها تصل إلى نتيجة واحده، بكل تأكيد ستخالف مبررات الوزير التي لم استطع فهمها حتى الآن حينما قال أن ذلك من شانه القضاء على الفساد؟.

الحكومة بذلك وإن كانت تقصد ما تفعل فهي أرادت أن تواجه أصحاب الدخول المحدودة بالمطحونين من المواطنين، وأن تشعل فتيل الفتنة بينهم، وربما تحرق أغصان الزيتون على أرض هذا الوطن، بعد أن تسود الكراهية بين الفئات التي بالكاد تعيش على أرضه، فالأول يسعى لزيادة دخله لسد حاجته، والثاني قد لايملك مايقدمه من هدايا ليتخلص من معاناته داخل أروقة المصالح الحكومية.

لازلت أتعجيب.. لماذا تتعجل الحكومة في اتخاذ قراراتها قبل دراستها بشكل كاف؟! ولماذا لا يتمهل المسئولون قبل تصريحاتهم "الجهنمية"؟!، والأهم من ذلك لماذا يدفع البسطاء وحدهم ضريبة كل هذا؟!.. وإن كانت قيادة الدولة حقًا صادقة في محاربتها للفساد فلماذا لا تحاكم القائمين على إعداد هذه القوانين وتلك القرارات؟!
الجريدة الرسمية