حوار مع نفسي
إنت يا "بنى آدم" إنت ع الصبح.. هو انت ماعندكش إحساس، كل يوم الساعة 7 تيجى ترزع وتدق كإن في حد مسلطك تصحينا من النوم وتقلق راحتنا، هو انت علشان بتصحى بدرى تقوم تقرف الناس النايمة من الفجر، طيب ماتبتدى شغلك 10، وقدامك النهار طويل.
لو سمحت بطل الخبط داه بدل ما أروح أجيب لك الشرطة وبطل إزعاج وارحمنا، إحنا مش في غابة، إحنا في دولة فيها قانون، والقانون بيقول إن الشغل في العمارات من 10 الصبح لــ8 بالليل.
هكذا أتحدث مع نفسى في مونولوج يدور ويتكرر بصورة شبه يومية، وأنا مستغرق في النوم تحت البطانية في الحى الذي اخترت أن أسكنه ويفترض أن يتمتع بالهدوء، لأننى أجد فيه راحة تزيل عنى حالة الغليان والخروج عن شعورى كلما سمعت صوت "المرزبة" الفظيع مدويًا دون توقف وكأنه يلامس أعماق "نافوخى".
غير أن الطريف في الأمر أن الشخص المعنى بهذا المونولوج لا يسمعه، هو حوار صامت "مع الإيقاف"، لأن التنفيذ سيترتب عليه إزعاج أفراد أسرتى والنهوض من النوم في حالة عصبية وخروج عن الشعور ثم أرتدى ملابس ثقيلة، ثم أزيح الستائر وأفتح باب البلكونة وأبحث عن الشخص مصدر الإزعاج في العمارة المخالفة وقد لا أجده ولا أراه، وإذا وجدته قد يكون رد فعل أكثر إيذاءً من تحمل الخبط وعدم النوم، وقد يتطاول ويصدر بذاءات لأنه يعلم أننا في دولة صارت الوقاحة وقلة الذوق والبلطجة هي العنوان، ولن ينالنى غير التوتر والنرفزة وطيران النوم من عينى.
هكذا أتحدث مع نفسى كل يوم وأقول للصنايعى الافتراضى المزعج إننى سأطلب له الشرطة وأنا أعلم باليقين أن الشرطة لم يعد لديها وقت لفض المشاجرات، وأدرك أننى لو ذهبت إلى قسم الشرطة لأقدم بلاغا بالإزعاج مثل كل العالم المتحضر، سيكون هناك من ينظر لهيئتى من فوق لتحت ويقول لى ساخرًا: "روح اتخانق مع الصنايعى وصاحب العمارة اللى جايبه، ولما واحد فيكم يخلص على التانى حنجيلكم" وأدرك أيضا أن الشرطة الآن لا تتحرك إلا في حالة وجود بلاغ بوقوع جريمة قتل.
كل يوم أتحدث مع نفسى وأقول للصنايعى الافتراضى إننا في دولة قانون، وأنا أعلم باليقين أن مصر أكثر دولة في العالم بها قوانين، لكنها لاتساوى ثمن الحبر الذي كتبت به، وأننا في دولة الفوضى، وأن الأجهزة التنفيذية المعنية بتنفيذ القوانين وتحديدا الجهاز الشرطى.. آخر بلطجة وآخر استهبال، وفى إجازة طويلة من القيام بدوره الأخلاقى في هذا الوطن.
ولأن هذا المونولوج يدور بداخلى ليس فقط مع صنايعية العمارة تحت الإنشاء المطلة على غرفة النوم، وإنما أيضا مع جارى الصعيدى في العمارة الخلفية الذي يدخن الشيشة طوال 24 ساعة ويقلقنى من النجمة عندما يفتح باب بلكونته وأسمع طرقعة صوت "الماشة" و"الصاجات" و"الكركرة"، يدور نفس الحوار أيضا مع كل صاحب سيارة يطلق سارينة الإنذار عشرين وخمسين مرة على الصبح، ومع كل بنى آدم يستخدم الكلاكس عشر مرات لينادى على صديقه، ومع صوت مكنسة الجيران الرهيب عندما لا يحلو للشغالة تشغيلها إلا في السابعة صباحا، ومع بائعى الأنابيب الذين يطرقون عليها بالمفتاح لتوقظ أتخن نائم، ومع سائقى التكاتك الذين يقومون بتشغيل "الدى جي" بأغانٍ شعبية فحولوها إلى ميكروفونات متحركة، ومع ميكروفون بائع الفول في الصباح الباكر، ومع دوى طلقات النيران التي يطلقها أقارب كل عريس عائدًا إلى شقته من حفل زفافه في الواحدة صباحا، بل وصلت حالتى المرضية إلى حد التحاور الصامت مع الكلاب التي تخترق جدار الصمت الليلى بنباحها المستمر لساعات.
وحتى لا أصاب بالجنون من الحوار الصامت مع طواحين الهواء، وبعد أن اكتشفت أن العيب فيّ وليس في كل هؤلاء وأدركت أننى خارج سياق العصر، عصر الفوضى والحرية المنفلتة بعد ثورتين، فقد اتخذت قرارًا بأن أستيقظ في السادسة صباحا مثل كل البشر.