رئيس التحرير
عصام كامل

حرية الرأي والتعبير.. "مش قلة أدب"!


أصدر القضاء الفرنسي منذ أيام، حكما بتغريم نائب اليمين الفرنسي (أوليفيه بولار) 3 آلاف يورو، بعد أن شبه وزيرة العدل (كريستيان توبيرا ) بالقرد.. وقال معلقا: إنه لا يفهم دواعي الحكم، مؤكدا أنه كان يمزح فقط.

وكان (بولار) قد نشر في 16 ديسمبر الماضي، تغريدة تضمنت صورة قرد يركب دراجة؛ ردا على تغريدة سابقة بالوزيرة المعتادة على التنقل بالدراجة..

التغريدة كلفت النائب تعليق عضويته، ثم طرده من الجبهة الوطنية؛ حرصا على محو صورتها كحزب عنصري، كما حكم على صحيفة (مينوت) الفرنسية الأسبوعية بغرامة 10 آلاف يورو في 30 أكتوبر؛ بسبب تشبيهها الوزيرة بقرد على غلافها، كما حكم على مرشحة سابقة للانتخابات البلدية للجبهة الوطنية بالسجن 9 أشهر مع النفاذ للأسباب ذاتها (انتهى الخبر الذي نشرته جريدة الجمهورية نقلا عن وكالات الأنباء الفرنسية والعالمية).

أنت حر ما لم تضر.. وحريتك الشخصية تتوقف قسرا عند حرية الآخرين، وحرية الرأي لا تعني إهانة الغير أو تحقيره مهما كان شأنه سواء كانت الإهانة بالقول أو بالفعل أو بأي صورة من صور التعبير تصريحا أو تلميحا؛ لأن ذلك يقع تحت طائلة القانون، وهذا ما يحدث في كل دول العالم خصوصا الديمقراطية، فليس معنى أن كل شيء متاح أنه مباح!! فالفرق بين الإتاحة والإباحة كبير جدا.

صدر الحكم في فرنسا، البلد العريق في الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، رغم أن المتهم لم يذكر اسم الوزيرة صراحة لكنه عبر بصورة أسقطها على الوزيرة التي تركب الدراجة، فوقع تحت القانون الذي لا يعرف الحرية المطلقة لكنه يعرف الحرية المسئولة. 

البعض عندنا ممن تعجبهم فكرة الفوضى يقفون خلف مصطلحات لا يأخذون منها غير الشكل كحرية الرأي والتعبير كحق كفله الدستور والقانون فيمارسون "التلطيش" في البشر بالباطل ويتعمدون الإساءة والإهانة بغير تثبت أو دليل، ويقولون ما يريدون وقتما يريدون دون اعتبار لخصوصية الغير فيخلطون الحق بالباطل، ويخلطون بين نقد الشخص ونقد سياسته، وهم لا يعرفون – أو يعرفون ويتجاهلون – أن الدستور الذي يركنون إليه كفل وحفظ وجرم المساس بحريات الغير واعتبرها مصونة لا يجوز للغير أن يمسها أو يتعرض لها.

بل زاد الأمر عن الحد، فوصل الحال بهؤلاء الذين يتحدثون عن حرية التعبير إلى الدعوة لإسقاط القوانين التي تنظم هذه الحقوق الدستورية تحت دعاوى مكتسبات ثورية لا تعرف فيها الحريات سقفا محددا، وأن التعبير عن الرأي (بطولة) طالما اقترن بـ "قلة الأدب والتجاوز".. وشجاعة طالما اقترن بالإساءة لشخصية مرموقة بالسلطة!!

للأسف الشديد الإعلام بصوره المتعددة، يساعد بشكل مباشر وغير مباشر، في التأكيد على هذه المفاهيم المغلوطة ولا يسعى لتصحيحها حيث يلهث وراء هؤلاء الذين يتطاولون ويتجاوزون ويمارسون حرية التعبير بـ "قلة أدب" فيقدمهم على الشاشات ويفرد لهم مساحات الهواء للحديث معهم أو عنهم، فيحولهم إلى أبطال ويعطيهم حصانة ضد الحساب والمساءلة.. في الوقت الذي لا يعطي فيه الإعلام وقتا لمن يرفضون هذا العبث أو اللهو على حساب الوطن وظرفه التاريخي الذي يمر فيه، وللأسف الشديد يبرر الإعلام ذلك بنفس منهج الذين يعتبرون حرية الرأي والتعبير عجلا مقدسا للعبادة من دون الله، وصنما يطوفون حوله ويقدمون له القرابين التي يسرقونها في ظلام الليل حتى يدركهم النوم فيغطون في ثبات عميق، ليعاودوا الكرة في صباح ومساء اليوم التالي!

النموذج الذي سقته في الخبر أول المقال، لا يعني الدعوة لكبت الحرية وتكميم الأفواه لكنه يعني الفرق الواضح بين المتاح والمباح في هذه الحرية، ويعني أيضا أن الحرية المطلقة مفسدة مطلقة، وإن كانت في أعتى الدول حرية وديمقراطية منذ مئات السنين.

المشكلة عندنا أننا نفعل الشيء وعكسه، ونرى من الصورة ما نريد أن نراه فقط حسب الهوى والمزاج.. نسب ونشتم ونتهم بلا أدلة ونقول حرية رأي وتعبير، ونرفض الآخر ونقول ديمقراطية، ونطلب السلطة ونتخلى عن المسئولية، ونريد أن نكون كشعوب الغرب ولا نحترم قيم العمل وبذل الجهد والانصياع للقانون، وننادي بالعدل وتطبيق القانون ولا نحترم القضاء وأحكامه، ونطلب الكمال ونبحث عن النقص!!.. حالة ربنا يعدينا منها على خير.
الجريدة الرسمية