رئيس التحرير
عصام كامل

فلسفة الرقص الصوفي.. غياب العقل في سبيل إحياء الروح

عبد الله نور الدين
عبد الله نور الدين وهبة

في عالم تتحرر فيه النفس من قوانين الطبيعة وتحلق الروح خارج مدى الجسم المثقل، تتهامس أصوات الذكر وتتمايل الأجساد كحمام ترفرف على أعتاب أعشاشها، ووجوه تسطع منها أنوار الصفاء وأثواب زينتها أجساد غابت عن مادية الحياة، وانسلخت عن الدنيا لتصعد إلى العالم الأعلى والمحل الأرفع، غابت ولكنها حلت بأرواحها في مكان أسعد أنه عالم الصوفية بأدائه الحركي المميز وطقوسه الرائعة وإيقاعاته المبهرة.


نشأت الصوفية وترعرعت بفلسفتها الخاصة في ظل حرية الاعتقاد التي أرساها الإسلام منذ بزوغ نوره على أرض البسيطة، وتطورت إلى فرق وطرق عبر عصور التاريخ الإسلامي، ومارست تلك الطرق التي أخذت من الزهد والتعبد والذكر، طريقة إلى الوصول إلى الله وخلقت لنفسها عالما موازيا لعالم المادية المفرطة.

وتعددت أساليب الذكر وممارسة الشاعر لهذه الطرق، وكان الرقص الصوفي أحد أهم الأساليب التي يخرج بها الصوفي من عالم الدنيا إلى عالم الروح.

ويتصل الرقص الصوفي بفكرة توظيف حركة الجسم الإيقاعية كنوع من التسبيح بحمد الله؛ حيث يتمايل المريدون ويدورون لمدة ساعات طويلة حول مركز الدائرة التي يقف فيها الشيخ، ويندمجون في مشاعر روحية سامية ترقى بنفوسهم إلى مرتبة الصفاء الروحي، فيتخلصون من المشاعر الدنيوية ويستغرقون في وجد كامل يأخذهم العالم المادي إلى الوجود الإلهي، وغالبا ما تصاحب أنواع الرقص الصوفي موسيقى الناى الذي يعتبر أكثر الآلات الموسيقية ارتباطا بصاحبه ويشبه أنينه أنين الإنسان الذي يحن إلى الرجوع إلى أصله السماوي في عالم الأزل.

ومن أشهر رقصات الصوفية رقصة التنورة، وهي ذات أصل تركي، ظهرت في القرن الثالث عشر الميلادي واستمدت حركاتها من رقصة الدراويش، وهي أولى درجات الترقي والتطور الروحي، وغالبا ما تكون هذه الرقصة مصحوبة بألوان من الدعاء والذكر والمديح أو المواويل الشعبية، وأداؤها يكون بالدوران ليس لمجرد الدوران، ولكن للرغبة في بلوغ مرحلة سامية من الصفاء الروحي، تنفصل فيه النفس عن الجسد وتتحرر فيه من قيود المادية المثقلة بذنوب الدنيا ورغباتها وشهواتها.

وقد ارتبطت الرقصات الصوفية المختلفة ومنها التنورة بالرمزية في أدائها الحركي وألوان الثياب التي يرتديها ممارسوها، فعندما يقوم الراقص برفع يده اليمنى إلى الأعلى واليسرى إلى أسفل، تنعقد الصلة بين السماء والأرض وتنخفض منه كل شيء بقصد الصعود إلى ربه، ومتسقا في دورانه مع حركة الكون.

والدورات الثلاثة حول باحة الرقص، تهدف إلى بلوغ التقرب إلى الله بالعلم والرؤية والوصال، كما يعتقد البعض أن دوران الراقص حول نفسه مثل الشمس ودوران الراقصين حوله يمثل الكواكب والدورات الأربعة حوله تمثل الفصول الأربعة، وعندما يفك الراقص الرباط الذي حول جزعه فهو يرمز إلى رباط الحياة التي يتركها خلفه، إضافة إلى الرموز التي تمثل الفهم الفلسفي للحياة وتعبر الأزياء التي يرتديها الراقصون عن فلسفة خاصة بالعالم الآخر، فالأبيض يرمز إلى الكفن والأسود يرمز للقبر، أما القلنسوة فترمز إلى شاهد القبر، والثياب المزركشة ترمز إلى الجنة.

ولقد تميز الرقص الصوفي المصري خاصة في مدينة القاهرة وأقاليم الصعيد، بأداء حركي مميز اختلفت أشكاله باختلاف البيئات الثقافية والاجتماعية التي ارتبطت بموروثات شعبية متباينة وباختلاف الأداء الإيقاعي والسماعي المميز لكل طريقة صوفية.

وتعتبر القاهرة من أكثر المناطق التي تشهد احتفالات دينية مختلفة، تظهر فيها فنون الرقص الصوفي على اختلافها حيث تضم القاهرة المئات من الأضرحة لرموز الطرق الصوفية وآل البيت، كما تشهد قرى ونجوع الريف المصري ألوانا من الرقص الصوفي التي تمارس أثناء إقامة الحضرة الصوفية التي يتلو فيها الدراويش أورادهم مع الذكر والمديح المميز، تلك الحضرة التي تغيب فيها الأجساد والعقول وتحل محلها الأرواح المتعلقة بالسماء ناشدة العفو والغفران.
الجريدة الرسمية