"الإسلاميون" لا يعرفون الخلاف السياسي
كانت التعددية المذهبية في الفقه سبيلا لإثراء الفكر الإسلامي وإتاحة الفرصة أمام جماهير المسلمين في البلدان المختلفة على اختيار ما يناسبها ويلائمها.. صحيح أن هذه التعددية شهدت على مدى التاريخ محنًا شديدة وخلافات وصراعات، خاصة في عهود التخلف والاستبداد، إلا أنها لم تخل من تطور.. هذه التعددية الفقهية، لم يواكبها -للأسف- تعددية سياسية، حيث كان يتحول أي خلاف سياسي إلى خلاف عقيدى.. البداية كانت في أواخر أيام الخليفة "عثمان"، عندما انقلب الخلاف السياسي إلى مجزرة بشرية استشهد فيها "عثمان".. ثم كانت الحرب بين الإمام "على" والمنادين بقتلة "عثمان" في موقعة "الجمل"، فموقعة "صفين" بعد ذلك.. وكان التحكيم، فظهور "الخوارج" والارتباط بالتكفير واستخدام السلاح لفرض الرأي وما تبع ذلك من حمامات الدم..
وطوال تاريخهم، لم يمارس الإسلاميون تعددية سياسية بالمعنى المتعارف عليه، وهذه هي المأساة والكارثة.. وفى فترة مبكرة ظهرت مسألة الإمام "المتغلب"، الذي يفرض سلطانه على من حوله بقوة الأعوان والسلاح، ثم يأتى أولاده من بعده لكى يرثوه، والشعوب لا رأى لها فيمن يحكمها، وهو ما أصل للاستبداد.. صحيح، قامت في مواجهة ذلك ثورات، إلا أنه كان يتم قمعها..
كان الإمام أبو حنيفة من المؤمنين بأن نظام الحكم في الإسلام يتحتم أن يكون شوريا تدعمه بيعة حقيقية، لذا رأى أن الخلافة الإسلامية الصحيحة انتهت بمقتل "على".. يقول: "ما قاتل أحد عليا إلا وعلى أولى بالحق منه"، وهذا الحكم ينسحب على حرب "على" و"معاوية"، وبالتالى فهو يسلب الأمويين شرعية ما ادعوه من خلافة.. وكان يرى نفس الرأى في ملك بنى العباس.. ولم يكن الإمام مالك يؤيد ملك بنى أمية ولا ملك بنى العباس، لأنه يعلم أن كلا من النظامين كسروى بعيد عن الشورى، وإن كان يرى عدم الخروج عليهم، وهو الموقف الذي فسره الشيخ "أبو زهرة" بأنه طالما كانت أحكام الشورى معطلة ولا سبيل للوصول إليها، فإن الرضا بالسيئ خير من الانتقال إلى الأسوأ، ففى الخروج فوضى وفساد واضطراب وهتك للحرمات وتعريض الأعراض والأنفس والأموال للضرر (الشكعة؛ إسلام بلا مذاهب)...
وكان الإمام الشافعى يرى أنه لابد من "الإمامة"، بحيث يعمل تحت ظلها المؤمن ويستمتع بها الكافر، ويقاتل بها العدو، وتأمن بها السبل، ويؤخذ بها للضعيف من القوى، حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر.. وعنده أن الإمامة يجب أن تكون في قريش دون تعيين بطن بعينها، وإنها يمكن أن تأتى من غير بيعة أن كان ثمة ضرورة، وهو رأى خطير، لأنه يهدر الشورى كأساس للحكم والتي تعتبر واحدة من مفاخر الإسلام الكبرى.. وعلى نفس الوتيرة -وربما أشد- كان الإمام أحمد، فهو يرى أن الخلافة في قريش ما بقى من الناس اثنان ليس لأحد أن ينازعهما فيها ولا يخرج عليهما، ولا نقر لغيرهما إلى قيام الساعة.. وإن الجهاد قائم مع الأئمة بروا أو فجروا، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والجمعة والعيدان والحج مع السلطان وإن لم يكونوا بررة عدولا أتقياء.. والانقياد إلى من ولاه أمركم، لا تنزع يدًا من طاعة، ولا تخرج عليه بسيفك حتى يجعل الله لك مخرجًا (طبقات الحنابلة).
ما يجرى الآن على يد الجماعات التكفيرية الإرهابية في ليبيا، واليمن، والعراق، وسوريا، ومصر، هو حلقة في سلسلة ممتدة منذ عصر الخوارج، وهؤلاء لا يعرفون شيئًا اسمه الخلاف السياسي، لكنهم يعرفون جيدًا الطريق إلى المجازر البشرية وحمامات الدم!