عندما اعتقل الزعيم عمه الذي رباه !
ويقفز السؤال إلى الأذهان وسط كل هذا الجدل: هل كان جمال عبد الناصر نفسه - نفسه - يتدخل في أعمال القضاء؟ هل كان وهو من أصدر قوانين تنظيم سلطة القضاء التي أسموها كذبا وزورا "مذبحة القضاء" - وقد فندنا ذلك بعدة مقالات أثبتنا زور الادعاء وكذبه بالأسماء والتواريخ والوقائع -..إلا أننا نجيب عن السؤال عما هو أشمل..عن العدل والسلوك الثوري عن عبد الناصر وما بينهما من دواع سياسية واعتبارات إنسانية..تعالوا في مقالين نجيب عن السؤال المثير وعن العدل عموما عند عبد الناصر..الجزء الأول ننقله بالكامل من كتابات أستاذنا محمد رجب الكاتب الصحفي الكبير وهو أفضل من يكتب الأسرار التاريخية بصياغة أدبية إنسانية رفيعة..حيث يكتب في "أخبار الحوادث" في 24 نوفمبر 2004 ما يلي حرفيا:
"لم يتمالك الرئيس الأسبق نفسه.. أسودت الدنيا في عينيه.. ضرب كفا بكف.. ما الذي أصاب عمه؟! وكيف تجرأ على أن يضع سمعة الرئيس والثورة في مجال الشبهات؟! وإذا كان الوزير السعودي ثريا وقادرا على تنفيذ مشروعات برأسمال كبير فمن أين سيأتي عم الرئيس بالمال الذي سيشاركه به؟! وعلى الفور يأمر عبد الناصر باستدعاء عمه لمقابلته فورا!
قبل هذه الواقعة بعام تقريبا ارتكب عم الرئيس واقعة أخرى جعلت عبد الناصر لا يطيق رؤيته ولا يحتمل سماع صوته.. فقد فوجئ الرئيس بخبر زواج عمه فطارت كل الأبراج من عقل عبد الناصر.. تذكر زوجة عمه التي ربته طفلا وعوضته عن حنان أمه التي ماتت بعد أيام من ولادته.. تذكر كيف كانت زوجة عمه تنام فوق الأرض لتترك سريرها له وهو مريض بالحمي!
تذكر كيف كانت تضع الطعام في فمه قبل أن تأكل هي.. وكيف كانت ترعاه حينما يذاكر دروسه، وتصطحبه إلى المحال لتشتري له ملابس العيد الجديدة ليلة الوقفة حتى لا يشعر باليتم أو أنه أقل من أطفال الشارع الذي يقع فيه بيت عمه بالإسكندرية!.. وأمام تدفق شريط الذكريات يأمر الرئيس بإحضار زوجة عمه بعد أن وصله خبر زواج عمه من امرأة أخرى بعد أن شاب شعره وانحني ظهر زوجته المخلصة!
وجاءت زوجة العم تسبقها دموعها.. وثار الرئيس وصاح في وجهها بأن دموعها قد تجعله يضع زوجها في السجن.. راح يرجوها ألا تبكي وأن ترفع رأسها في شموخ لأنها منذ تلك اللحظة سوف تعيش معه في منزل الرئيس ولن يشم زوجها رائحتها بعد اليوم ولن يرى شعرة من رأسها حتى لو أذل نفسه! لم يكتف الرئيس وقتها بتلك الكلمات، بل جمع أسرته وقال لزوجته رحمها الله على مرأى ومسمع من أولادهما؟ من اليوم ستكون زوجة عمي هي ست البيت!
ورحبت أسرة الرئيس وتفنن الجميع في رفع روحها المعنوية.. بينما يصدر الرئيس أوامره إلى حراس البيت بألا يدخل عمه هذا البيت أبدا سواء في حضوره أو غيابه!..ويبدو أن عم الرئيس شعر بالخوف فأرسل إلى ابن أخيه يرجوه أن يتفهم موقفه، فهو يريد أن يشرح دوافع زواجه الجديد لكي ينجب طفلا بعد أن تأكد من أن زوجته لا تنجب، وأصابها المرض، وصار هو يحتاج لمن يرعاه!.. وفي نهاية الرسالة يطلب العم من ابن أخيه رئيس الجمهورية أن يسمح له بزيارة زوجته الأولى!.. إلا أن عبد الناصر يتجاهل الرسالة ويرفض الطلب ويكرر أوامره لحراس البيت بألا يقترب منه عمه أبدا، ثم يؤكد موقفه لزوجة عمه قائلا: لا يؤلمني في هذه الدنيا سوي أن أشاهدك منكسرة ومغلوبة على أمرك ومجروحة الكرامة.. لا تفكري في أمر هذا الرجل.. اتركيه للأيام.. وسوف تتأكدين أن حكم الأيام لا يرحم أبدا!
.. ومضي عام على هذه الواقعة..فشلت كل محاولات العم في استرداد زوجته، حتى بعد أن طلق زوجته الجديدة بعد سبعة شهور من زفافها إليه!.. فشلت كل محاولاته في استرضاء الرئيس.. لكن ها هو يرتكب غلطة عمره.. والغلطة هذه المرة خارج النطاق العائلي.. لقد أراد أن يستثمر ثراء الوزير الذي استضافه في مصر لإقامة مشروعات مشتركة.. وهنا لم يحتمل عبد الناصر.. ولم يسكت هذه المرة.. بل استدعاه.. وها هو يمثل أمام الرئيس فيسأله عبد الناصر: قد أتسامح في الخلافات العائلية.. لكن هل تعلم عني أنني من الممكن أن أتسامح مع من يسيء إلى إلى سمعة الثورة وسيرتها؟! وأسرع العم وقد فهم مغزي الكلمات يرد بسرعة: أنا كنت قاصد شغل مع الراجل.. لكن خلاص بلاش منه! لم يرد الرئيس.. تجهم وجهه.. وخرج الضيف بعد أن شعر ببرودة اللقاء.. لكنه لم يكد يصل إلى بيته حتى فوجئ بعدد من الضباط يلقون القبض عليه ويصطحبونه إلى المعتقل بأمر مباشر من رئيس الجمهورية.. عمه!
.. وصمت الجميع!.. وتعاملت الصحافة مع الموقف بالمثل القائل: 'لا من شاف ولا من دري!' وبعد 40 يوما.. وبالتحديد ليلة عيد الفطر كان الرئيس عبد الناصر يقف في مطار القاهرة يودعه كبار رجال الدولة قبل أن يصعد الطائرة مسافرا إلى إحدي الدول الأجنبية في مهمة سياسية.. وهنأه الجميع وهم يصافحونه بعيد الفطر المبارك، ثم اقترب منه المشير عبد الحكيم عامر وجمال سالم وقالا له: ياريس الليلة عيد.. وكل سنة وأنت طيب.. والمسامح كريم.. والعفو عند المقدرة شيمة العظام.. واحنا قاصدين سيادتك في خدمة إن شاء الله يكون ثوابها كبير عند ربنا.. تفرج عن عم سيادتك في الليلة المفترجة دي!
يصمت عبد الناصر لحظات..لم يكن يفكر في كلمات المشير وجمال سالم بقدر ما تذكر زوجة عمه وهي تحاوره قبل أن يغادر بيته متوجها إلى المطار حينما مد يده ليصافحها: ربنا يا بني يكتب لك في كل خطوة سلام.. ويوفقك.. ويرجعك مجبور الخاطر.. وتفرح الناس كلها، كل سنة وأنت طيب يا ابني.. وما تنساش عمك.. بكره العيد.. يعني لو.. لو أمكن يطلع علشان ما يجيش عليه العيد في السجن يبقي كتر خيرك!
تدمع عينا الرئيس خلف نظارته الشهيرة وهو يتذكر كلمات زوجة عمه التي قالتها له وهي ترتجف وتبكي.. وبسرعة ينظر الرئيس إلى المشير وجمال سالم ثم يهمس لهما قائلا: خلاص.. طلعوه!
عاد الرئيس من رحلته.. ذهب إلى بيته.. جلس إلى أفراد أسرته ثم نظر إلى زوجة عمه بعينيه الحادتين وسألها: مبسوطة يا حاجة..
ربنا يخليك لينا.. ما هو ده جمال اللي أنا ربيته!
قوليلي بقي.. حاول يكلمك ؟: أيوه يا بني.. عاوز يصالحني.. بس أنا أبدا.. قلت له لما يرجع الريس! قال: وأنت رأيك أيه؟!
هو غلط يا بني لكن راجع نفسه.. وربنا غفور رحيم.. ودلوقت ملوش حد في الدنيا غيري.. ده ندمان ندم لا قبله ولا بعده.. بس أنا قلت أبدا.. الرأي رأي الريس! ضحك عبد الناصر ونهض يضم زوجة عمه بين ذراعيه وهو يهمس لها:
المهم عندي تكوني سعيدة.. ده أنت أمي وهو بعد الأم في حاجة.. خلاص أنا موافق بس بشرط.. هو اللي ييجي لغاية هنا ويعتذر لك.. ويصالحك!
وطارت زوجة العم من الفرحة.. وحضر العم واعتذر بأكثر مما كانت زوجته تنتظر.. لكنه حينما نظر إلى الرئيس معاتبا بادره عبد الناصر قائلا:
لن أعتذر عن اعتقالك.. اللي أنت عملته جريمة في حق مصر!
.. وسكت العم..
.. لكن التاريخ لا يسكت أبدا.. ولو بعد حين..
صحيح.. كانت أيام!"
انتهت سطور أستاذنا محمد رجب وغدا سنكمل..