الحلقة المفقودة
أشارك فى مؤتمرات عربية ودولية أو أجلس فيها مستمعاً، وفى كل مرة أجد بينها شيئاً مشتركاً، هو أن المشاركين من المفكرين أو الخبراء قد يطلعون بأفضل رأى أو يكتبون تقريراً يضم اقتراحات تفيد الناس، إلا أن هناك دائماً حلقة مفقودة بين المفكر وصاحب القرار، وأن الجهد المبذول فى هذا المؤتمر أو ذاك سيذهب عبثاً.
فى الشارقة هذا الأسبوع، لم نبحث عن الحلقة المفقودة، ولم نحاول أن نبنى جسراً مع صاحب القرار، فالحاكم الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى مفكر بقدر ما هو مسئول حكومي، فأسمَعنا رأيه واستمع إلينا، وكان فى موقع الحاكم ساعةً والمفكر ساعةً أخرى.
شاركت فى الدورة الثانية لمنتدى الاتصال الحكومى الذى كان موضوعه «تواصل فعّال، خطاب موحد».
أقبل الاتصال وأرفض التواصل، فأنا لا أتصور نفسى فى صف واحد مع رئيس مصر، أو رئيس سورية، وأفضِّل أن يكون الاتصال على أساس قانون إن لم يكن مُنصفاً، فأقله يكون واضحاً، يشرح أين تنتهى حريتى وتبدأ حرية القارئ، وأين يقف النظام بيننا. كذلك لا أريد خطاباً موحداً، بل أرجو أن أرى يوماً تصبح فيه الصحافة العربية سلطة رابعة حقيقية، تراقب أداء الحكومة، وتملك حرية الانتقاد تحت مظلة القانون، فيحميها إذا أصابت، ويعاقب المخطئ إذا نبا قلمه.
الشيخ سلطان رأى فى الهوية الثقافية الدرعَ الواقى فى مواجهة الزحف الفوضوي، وهو تحدث عن «صراع الدِّيَكَة» فى حلبات مثل مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية، ولولا لطف الله لكان الصراع فى كل حارة وكل بيت.
كان رجب طيب أردوغان ضيفَ الشرف فى المؤتمر، وذكّرته ونحـــــن فى استقباله أننا تحدثنـــا بــــعد مقابلــة تلفزيونية معه فى إسطنبول عن مشروعه بناء حلف اقتصادى تركي-عربي. وسمعته بعد ذلك يخطب فى المؤتمر ويقول إن تركيا لن تسكت عن الذين يسفكون دماء شعوبهم، وينتصر للفلسطينيين بقوة.
هو قال إن سر نجاح حكومته يعود إلى التركيز على لغة القلب والصدق فى التخاطب مع الشعب.
أقول: ربما، إلا أن ما زدتُ فى الجلسة التى شاركت فيها بعد ذلك، أنه شدد أمامى فى إسطنبول على الحاجة إلى تلبية مطالب الشعب ليعيد انتخاب «حزب العدالة والتنمية» كما فعل ثلاث مرات حتى الآن، وأن اقتصاد تركيا زاد مئة فى المئة فى العقد الأول من هذا القرن، وفق أرقام البنك الدولى وصندوق النقد الدولي.
أزعم أن الإسلاميين الحاكمين فى تركيا مفتوحو العيون، وأن الإسلاميين عندنا صمٌّ عُمْيٌ لا يعقلون، ويا ليتهم كانوا بُكْماً أيضاً، إلا أنهم يعوّضون عن فشلهم فى تلبية طموحات الشعب بالعذر الصفيق والتلفيق والتزويق.
الجلسات الخاصة أتاحت لى أن أسأل حاكم الشارقة عن رأيه فى ما آلت إليه الثورات العربية، وهو أبدى قلقه لفشل هذه الثورات حتى الآن فى إصلاح أمور البلدان المعنية، كما أبدى حزنه العميق على الضحايا الذين يسقطون كل يوم فى سورية. وكان الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفى أنان ضيفَ الشرف الآخر فى المؤتمر، وسألته عن وساطته فى سورية فقال إن الرئيس بشّار الأسد لم يصغِ لنصحه وركب رأسه، فزاد الوضعَ سوءاً.
بيـــن هذا وذاك، جلست مع أندرو يونغ، السفير الأميركى لدى الأمم المتحدة خلال رئاسة جيمى كارتر، وهو أصرّ على أن القتل والقتال لا يحلان مشكلة، بل يزيدان أيَّ وضع سوءاً وتعقيداً وخطراً، ثم إن نفقات الحروب أضعاف أضعاف نفقات المفاوضات ومحاولات حل الأزمات بالوسائل السلمية. هو شرح لى كيف حُلَّت مشاكل دول عدة فى أفريقيا الجنوبية بالتفاوض، فلم تقع حروب يدفع المدنيون عادةً ثمنَها. ودافع أندرو يونغ عن الفلسطينيين وحقوقهم، التى تمنى أن يحصلوا عليها بالوسائل السلمية.
أخيراً، أقول إننى رأيت الشيخة لبنى القاسمي، وزيرة التجارة الخارجية فى الإمارات، والأخ زياد بارود، وزير الداخلية اللبنانى السابق. الشيخة لبنى شاركت فى مؤتمر الشارقة بعد أن انقطعت عن مؤتمر المنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس، وسألتها عن السبب، فقالت إنه لا يقدِّم ما يهمها فى عملها. ربما كان هذا صحيحاً، إلا أننى أرجو أن أراها فى دافوس السنة القادمة. أما زياد بارود، المحامى العالى الثقافة، فذكرنى بشيء من أيام الطفولة، عندما كان العمال يضعون «البارود» بين الصخر ويفجرونه لتفتيته وهم يركضون ويصرخون: بارود، بارود، يا ناس اهربوا. يكفى زياد بارود فضلاً أنه فى وزارة الداخلية لم يُخِفِ الناس، ولم يهرب منه أحد. وأُكمل غداً.
نقلاً عن الحياة اللندنية