منى هاشم.. أم المساكين
"منى هاشم" سيدة لم تملأ صورها الصحف والمجلات ولم يغزو وجهها أجهزة التلفاز، سيدة لا يعرفها أصحاب الأقلام ومقدمو البرامج لتكون ضيفا يوميا عليهم باعتبارهم اكتفوا بتلميع الأفاقين والمحتالين ومحترفي سرقة جهد الآخرين، فأخذوا يفتحون برامجهم لنماذج من بشر كل أهدافهم في الحياة أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فالجميع ثوار والجميع أبطال!
ولمن لا يعرف السيدة منى هاشم، هي من النماذج التي تملك أيادي بيضاء، لا تعرف حياكة المؤامرات أو بث الشائعات، ولكنها أفنت وقتها وعمرها وحياتها في أعمال الخير، تعالج ما عجزت عن علاجه مؤسسات الدولة تجاه الفقراء والمساكين، على مدى سنوات طويلة تحتضن تلك السيدة بعطفها الآلاف ممن لا يستطيعون مواجهة أعباء الحياة ويعيشون على هامشها، لم تكتف بمن حولها فقد كانت تبحث عنهم في كل شبر في كل محافظات مصر، من أعماق الريف إلى أقاصي الصعيد، في القرى التي لم تعرفها أجهزة الإعلام، فقد جعلت الفقراء عائلتها، تطعمهم وتكسوهم عندما تبخل الدولة عليهم وتتولى الإنفاق على علاجهم عندما توصد أبواب المستشفيات العامة والخاصة في وجوههم.. تقدم لهم الغطاء ليتدثروا به من برد الشتاء..
مئات من منازل الفقراء في أعماق الريف وأطراف الحضر تتولى بناءها وتجهيزها.. تأوى بين الحيطان الأطفال والشيوخ والنساء تنقذهم من التشرد ونوم أرصفة المدن التي بات المقيمون عليها أكثر من أحجارها.. هذه السيدة التي تعيش في القاهرة وتنقل الخير بيديها ومن خلال متعاونين إلى كل أنحاء مصر، إنما ينطبق عليها قوله تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.
لقد فعلت تلك السيدة ما لم يفعله رجال الأعمال المصريون في أوجه الخير.. ودونما أن تنضم لقائمة ناهبي خيرات الدولة ولم تكن من الذين استولوا على ثروات البلد وأفسدوا الحياة السياسية، وغسلوا أيديهم في أعمال ظنوها خيرا ولكن يسكنها المن والرياء والنفاق بهدف غسيل السمعة.
إن تلك السيدة لم ترض يوما أن تكون أعمالها إلا في الخفاء دون إعلان أو إعلام، فاستحقت أن تُلقب بأم المساكين، والحقيقة أنني لم ألتق هذه السيدة التي فارقت الحياة منذ أيام طوال حياتي، ولكني التقيت بمن امتدت إليهم يدها فمسحت دموعهم وأطعمت أفواههم وعالجت آلامهم، وداوت جراحهم فكانت دموعي وكلماتي تسبق عزائي.. اللهم اجعل كل خير قدمته نورا لها في قبرها وحجابا من النار وقربا لها من الجنة، اللهم تغمد هذه السيدة - التي عملت الخير في صمت ورحلت في صمت - بواسع رحمتك وأسكنها فسيح جناتك.