رئيس التحرير
عصام كامل

القلوب تتآلف وتتحد بين العارفين بالله


في كل زمان ومكان كان لله نفحات خص بها عباده العارفين الواصلين من بين الناس كما كانت له الخيرة في اصطفاء أنبيائه ورسله من بين ملايين البشر ومن أقطار معينة دون غيرها لتكون مهبط هذه الرسل لتبليغ رسالاتهم لأقوام بعينها، إلا أن الله خص الرسول النبى محمد (صلى) بتبليغ الرسالة للناس كافة واختار من صحابته القليلين الذين خصهم الله بالحدس المباشر الذي يتمثل في الكشف عن أشياء يصعب على عامة الناس رؤيتها أو التنبؤ بها.


فها هو عمر بن الخطاب يقطع خطبة الجمعة وهو فوق المنبر مناديا (يا سارية الجبل) يرى سارية من موقعه بمكة وهو محاصر بجيشه في الأندلس ويسمع سارية نداء عمر ويتحصن بالجبل ويلتف حوله لتكون الغلبة لجيش المسلمين، هؤلاء هم الصوفية الزاهدون في الدنيا العاشقون لله ولرسوله والمخلصون في تقواهم وتقربهم زلفى إلى الله، هؤلاء الذين أُطلق عليهم أولياء الله الصالحون، لهم كرامات ومعجزات منحها الله لهم لكنها لا تبلغ عطاءات الله لرسله وأنبيائه.

وليس هنا مجال للتحدث عن هذه المعجزات لأننا سنلقى الضوء في هذا المقال عن صوفى زاهد ورع وابنته وحبيبه الذي أنار له دنياه شمسا ونورا فكان مولانا جلال الدين الرومى الذي بلغ من العلم ما بلغ إلى أن قارب الثمانية والثلاثين من العمر ولم يعرف شيئا عن الزهد وبلوغه هذه المنزلة الرفيعة منها والوصول إلى طبقات العارفين قبل لقائه مع خليله وحبيبه شمس الدين التبريزى الذي هجر والديه وبلدته في سن العاشرة متجولا في البلاد لأن الله خصه وميزه دون إخوته وهو في السابعة من عمره برؤى كادت أن تأخذ بلب أبيه عندما يقصها عليه حتى وصمه بالجنون ما اضطر الصبى للرحيل سائحا في بلاد الله يتلمس الخطى والمعرفة، فكان هذا أول فارق بينه وبين مولانا، شمس يحصل المعرفة وبلوغ الذات الإلهية بالاحتكاك مع الناس، فقراء وأغنياء، علماء وجهلاء، شحاذين وسكارى، دراويش ومجذوبين، أميرات وعاهرات، حيوانات من كل الفصائل مفترسة وأليفة في بلاد متعددة.

أما مولانا كان في ذلك الوقت يقطن ( قونية ) بالقسطنطينية قديما إسطمبول حديثًا، بعد أن جاء ووالده من أفغانستان ليستقرا في هذه المدينة وبعد أن ورث من والده الإمامة والعلم، كانت له الصدارة في المسجد الكبير لملتقى ومختلف فئات الناس الذين يعلمهم ويدرسهم العقيدة وهو إمام وخطيب الجمعة وكانت تأتيه بعض الرؤى وقليل من الحدث الذي لا يذكر وبعض الكرامات لكنه لم يبلغ مكانة شمس في المعرفة والوصول إلى الله ومن رؤياه أيضا خليل ينتظر قدومه له علامات معينة في وقت ما ظل ينتظره كثيرا وهو في شوق دائم له.

كان مغزى هذه الرؤى بين العاشقين أن يكمل بعضهما بعضًا، فشمس الذي يحمل المعرفة دون أن يتعلمها أو يدرسها وهى مدونة في قلبه، كان لزاما عليه أن يلتقى مولانا الذي لا يعرف في أي بلد يكون، وكان عليه الاستمرار في البحث إلى أن التقيا في قونية سنة 1244 ميلاديًا، والتبريزى أكمل عقده الرابع بفارق عامين عن مولانا الذي التقى أكثر من مرة مع ابنته ( كيميا ) في قريتها التي تبعد عن قونية مائتى كيلو متر ليتجولا بين السهول والوديان وهى لم تبلغ السادسة من العمر.

هي ابنة ( أفديكيا وفاروق ) ولديهم ثلاثة أبناء غيرها هي أصغرهم، تميزت دون إخوتها وهى في الخامسة من العمر بالرؤى والشطحات الخلوية ما جعل والديها يشعران بالخوف الشديد عليها خاصة بعد أن ذاع صيتها في القرية، قال المطران الذي يمثل الكنيسة في ذلك الوقت وهو صوفى ورع، إن كيميا سيكون لها مستقبل كبير ينتظرها ولذلك عليها أن ترحل إلى قونية لتتعلم مع أنه مسيحى موحد، ولا غرابة فأكثر من فرعون مصرى كانوا يدعون بديانة التوحيد قبل موسى وعيسى.

وكيميا لم تكنَ بهذا الاسم برغبة والديها، إلا أن هذا جاء مع زائر الفجر في ليلة شديدة البرودة يتلمس من أهل بيت قصده مختارا الدفء وسد رمق الجوع، رجل ليس له معرفة من قبل بأهل هذا البيت وبعد انقضاء اليوم الثانى وقبل رحيله أخبر أفديكيا بأن الجنين الذي في أحشائها أنثى وعليها أن تسميها كيميا وسيكون لها شأن كبير، هكذا كان العصر الذي عاش فيه مولانا، كان يكثر فيه الزاهدون العارفون بالله، لكن لكل منهم درجة عند الله وفى عصره وبدمشق كان الحلاج وابن عربى وابن الفارض والدمشقى الذين قرأ أشعارهم وتعرف على كراماتهم لكنه ظل ينتظر رجلا مجهولا لا يعرف عنه إلا طيفا في رؤياه كان بعد ذلك التبريزى، وذلك بعكس رؤياه لكيميا، ورؤى كيميا له.

ظل شمس يتمم قواعد العشق الأربعين التي لم ينتهِ منها إلا قبل رحيله الثانى والأخير من قونية لأن كان عليه أن ينقل لمولانا كل معرفته أثناء خلواتهم التي دامت شهورا وأياما في بيته والذي بمجرد أن رأى شمس يعترض موكبه وهو في زينته التي كان معتادًا عليها ممتطيًا جواده ومريديه يلتفون من حوله وكان شمس في قونية منذ شهرين لم يحاول أن يذهب إليه بعد أن تأكد أن هذا هو مبغاه، ترجل مولانا عن مطيته واقترب منه، ما زاد الناس دهشة، كيف لرجل في قامته يلبى الأمر الذي صدر له من ذلك الدرويش البائس، ولكونهم يجهلون كم انتظر كل منهما هذه اللحظة، إلا أن كيميا كانت تعلم بها وهى في بيت مولانا منذ عام بلغت فيه السابعة من العمر لتكون هي همزة الوصل بينهما وليعيش ثلاثتهم تحت سقف واحد.

يقول شمس لكيميا عندما رآها بعد مرور سنة من تواجده في بيت والدها بالتبنى: "عندما كنت طفلا رأيت الله والملائكة ورأيت أسرار العالمين العلوى والسفلى، كنت أظن أن جميع الرجال رأوا ما رأيته، لكن سرعان ما أدركت أنهم لم يروا" هذه هي الحياة الأسمى للروح التي تقوم على البصيرة الروحية التي توهب لصاحب القلب النقى الطاهر الذي يسير مع الله والذين يفعلون الخير ويعلون فوق الخوف من العقاب والطمع في الثواب أولئك الذين يعشقون الله من أجل الله لأنه أهل لذلك ولكى يصبح الصوفى واحدا مع الله.

يقول التبريزى في القاعدة الأربعين: (لا قيمة للحياة دون عشق، لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحى أم مادى، إلهى أم دنيوى، فالانقسامات لا تؤدى إلا إلى مزيد من التفتت فليس للعشق تسميات أو علامات ولا تعاريف إنما العشق ماء الحياة، العشق هو روح من النار فيها يصبح الكون مختلفا عندما تعشق النار الماء)، كان الفراق الأول بعد مرور سنتين بين مولانا وشمس سنة 1246 كادت أن تنتهى حياة مولانا بفراقه، وبعد عودته من دمشق التي اختفى فيها عاما كاملا ردت الحياة لمولانا واستكملا معا ما تبقى من تعاليم كان لابد أن يضعها شمس للرومى قبل رحيله الأخير.

ولخوف مولانا من ألسنة الناس وما يقولونه عن علاقتهما، زوّج مولانا شمس لكيميا حتى لا يغادره مرة أخرى، لكنه كان زواجًا روحيًا فقط لا جسديًا ارتضت به لكونها تعلم جيدا مقام ورفعة شمس التي لم يعرفها إلا العارفون أمثالها وأمثال والدها، ثم فارقت الحياة بعد أن انتهى الدور الذي كلفت به، بعدها رحل التبريزى سنة 1248 تاركا حبيبه وهو في أوج زهده وصوفيته بعد أن تعلم الموسيقى والسكر في حب الله والرقص بالتنورة وبعد أن خلع عن نفسه كل مظاهر الحياة الفانية وتخلص من الحرير والديباج وخالط المساكين والفقراء والدراويش حبًا وتقربا لله. 
Dr_hamdy@hotmail.com
الجريدة الرسمية