رئيس التحرير
عصام كامل

خلافة العار


يخلط البعض بين مصطلح الخلافة وبين صحيح الدين، فلا يفرقون بين الإسلام كدين لآخر الزمان اعتمد على التدبر والتأمل والمنطق في إدارة شئون العباد، ولا أدل على ذلك من قصة «طلع النخيل» التي شاوروا فيها الرسول الكريم، فأشار عليهم بعدم وضع الطلع فيها فشاص التمر؛ فأخبروا الرسول الكريم بما حدث فقال قولته التي نراها إحكاما للعقل والمنطق «أنتم أعلم بشئون دنياكم».

ولأن بزنس الدين يرتبط بالعديد من جمهور المستفيدين رأيناهم كما في عصور الظلام بأوربا وصلوا إلى بيع الجنة في صكوك الغفران المتعارف عليها تاريخيا، فإن المنطقة العربية والدين الجديد لم يكن بعيدا عن هذا البزنس وأصبح له أتباع ومريدون ممن صدقوا فكرة الخلط بين الدين والبزنس.

والقارئ المتابع لأحداث تاريخية أكدها المؤرخون يرى ذلك بوضوح ودون ترتيب تاريخي.. نتنقل بين صفحات التاريخ حتى نعلم أن تجارة الدين في بلادنا أخطر من تجارة المخدرات.

هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي كان ضمن فئة العبيد، أعتقه واحد من بني أسد فصارت علاقته بمن أعتقه علاقة الولاء.. كان تقيا ورعا شهد له الجميع بصلاحه، ولم يكن يهاب سلطة ولا سلطانا، وقد ولد على الأرجح في زمن خلافة على بن أبي طالب، رضي الله عنه وأرضاه.. أمر الحجاج بن يوسف الثقفي بالقبض عليه، وبالطبع ذهبت قوة بوليس عاتية من قوات الحجاج التي ربما لم تضاهيها قوات حبيب العادلي، أيام أن كانت له قوات.

قبضوا على سعيد واقتادوه ربما بطريقة أكثر بشاعة مما كان يفعله زكي بدر مع المتطرفين والإرهابيين، وعندما دخل سعيد على الحجاج الذي كان يجلس وسط حاشية من الأمراء والوزراء، وربما المعاونين من ضباط وأمناء ومخبرين.

ربما انزعج الحجاج لأن سعيدًا لم يكن مرتعبا، وقد يكون السبب أنه لم يقدم له التحية، وكما تعلمون أن الحجاج كانت بدايته مجرد شرطي كل مواهبه قدرته الفائقة على التعذيب والقتل، الذي فاق كل تعذيب من أيام عبد الناصر وحتى سقوط مبارك.
بادره الحجاج وكأنه يريد أن يوقعه في شر أعماله التي لم تكن في سجل حياته كما ذكر الرواة:

الحجاج (وكأنه يفتح محضر شرطة من بتاع اليومين دول): ما اسمك؟.
سعيد: سعيد بن جبير
الحجاج متغطرسا ومستفزا: بل شقى بن كسير..
فلم يعجب سعيد بتريقة الحجاج وقرر الرد عليه بقوة فقال له: بل أمي كانت أعلم باسمي منك..
بالطبع لم يضحك المحيطون برد سعيد، رغم فكاهته وشجاعته في ذات الوقت..
يرد الحجاج بلسان الشرطي قليل الأدب: بل شقيت وشقيت أمك..
وهنا لم يتوقف سعيد عن شجاعة قلما نجدها هذه الأيام، أو حتى أيام الحجاج، الذي كان مجرد ذكر اسمه يزلزل الأرض من تحت أقدام السامعين..

يرد سعيد بجرأة وقوة: الغيب يعلمه غيرك.
يشعر الحجاج بحرج بالغ وسط رجاله الأقوياء فسعيد يهينه بإعادته إلى الحقيقة الإلهية؛ فالغيب يعلمه الله..
وبعصبية مبالغ فيها يرد الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى.
ربما أراد الحجاج أن يحقق نصرا مباغتا على سعيد الذي قال بشموخ: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها.

يتجاهل الحجاج هذه الحجة القوية فيقول موجها كلامه لسعيد: فما قولك في محمد.. يرد: نبى الرحمة وإمام الهدى.
يعصر الحجاج رأسه باحثا عن توريطة لسعيد فيسأله: فما قولك في على بن أبي طالب أهو في الجنة أم في النار؟
سعيد ببساطة وإيمان ويقين: لو دخلتها فرأيت أهلها لعرفت!!
الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟

سعيد: لست عليهم بوكيل..
وهنا يقترب الحجاج تحت وطأة عقلية الضابط المتآمر من فكرة توريط سعيد في جريمة المعارضة للحاكم فيسأله: فأيهم أعجب إليك؟

يرد سعيد بقلب المؤمن: أرضاهم لخالقه.
يشعر الحجاج بأنه دخل حارة سد كما يقول العامة فيرد بسرعة: وأيهم أرضى للخالق؟

يقول سعيد: علم ذلك عنده.. يقول الحجاج: أبيت أن تصدقني فيقول سعيد إني لم أحب أن أكذبك.
هنا ينهار الحجاج وهو يقول لسعيد: فاختر أي قتلة تريد أن أقتلك..

وهنا يوقن سعيد أن الأمور تصل إلى الصدام فيقول بقوة: بل اختر يا شقي لنفسك، فوالله ما تقتلني اليوم بقتلة إلا قتلتك في الآخرة بمثلها.. إننى أعوذ منك بما عاذت به مريم بنت عمران بالرحمن، إن كنت تقيا.

أمر الحجاج فأخرجوا سعيد ليقتلوه.. سعيد يضحك بصوت مرتفع.. الحجاج مغتاظ يسأله: ما يضحكك؟!
سعيد: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عنك، ويطلب أن يصلي ركعتين..
الحجاج يأمر بتوجيهه إلى القبلة وقتله..

سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين.

يبدو أن الحجاج استكثر على سعيد أن يموت مستقبلًا القبلة فأمر بتوجيهه بعيدا عنها.. سعيد بذكاء المؤمن: فأينما تولوا فثم وجه الله، ولما كب على وجهه، قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأن محمدا عبده ورسوله.. وأن الحجاج غير مؤمن بالله ثم قال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي.. سقطت رأس سعيد على الأرض ولسانه لا يزال يردد الشهادتين.

تلك صورة من صور الخلافة وليس الدين، فالدين لا يمارس هذه البشاعة والوحشية إنما يمارسها الساسة وأصحاب بزنس الدين.. حلقات هذا الملف لا تنتهي.. وسوف نوالي قراءة بعضها في الأيام القادمة بإذن الله.

الجريدة الرسمية