العدو الحقيقي
أعداء مصر خلال هذه المرحلة الحرجة التي نعيشها ليسوا كما يتصور البعض، أنهم فقط الإخوان، أو عناصر داعش، وأنصار بيت المقدس، والتنظيمات الجهادية الأخرى، أو أي تنظيم آخر يحمل السلاح في وجه المصريين، ويرعبهم بالتفجيرات مساء، والقنابل والرصاص صباحا.
العدو الجديد أكثر شراسة من هؤلاء ضربته قاتلة يقضى على الأخضر و اليابس لا يترك الأوطان إلا بعد أن تكون جثة هامدة، يحرق الأرض من تحته، يتلذذ بإثارة الفتنة، يفرح في قطع الرءوس، يجد نفسه في ترويج المعلومات الكاذبة، يشعر بالزهو والفخر عندما يجد مصطلحاته تتردد على ألسنة العامة -دون مراجعة لما يسمعون-، ويشعر بالكبرياء عندما يرى أثر أكاذيبه على البسطاء، هذا الوحش الكاسر المسمى الإعلام، أصبح اللاعب الأساسى على المسرح المصرى، وله الكلمة العليا في تقرير مصير كثير من القضايا.
فحالة الانفلات الإعلامي التي نعيشها حاليا غير مسبوقة، وهذه السيولة الإعلامية لم يعان منها المجتمع المصرى قبل ذلك كل مذيع وأخد قناة لحسابه من بابها، ويظل يلقنا المواعظ والحكم حتى الساعات الأولى من الصباح، ويروج خلال هذه الساعات الطويلة لروايات وأحاديث مختلقة، ومعلومات كاذبة تضر بالوطن أكثر مما تفيد، ويحاول كل مذيع من هؤلاء بين كل جملة وأخرى توصيل رسالة للجميع أنه أحد صناع القرار في مصر، وأن القيادة السياسية تستطلع رأيه في كل صغيرة وكبيرة، وأنه مذيع النظام المفضل الذي يضبط أداءه على أي نغمة يريدها صناع القرار، وأن ما يردده من معلومات تأتى تحت بند سرى للغاية، ولكنه أبدا لن يبخل بها على جمهوره الحبيب، وأن ما يقوله من معلومات كان طرفا فيها وشاهدا عليها بأم عينيه، ولا يجب التعامل معها باستهزاء وتراخى، ولابد من تحرك القيادة فورا فور سماع هذه المعلومات الخطيرة -وكأن القيادة ليس لديها أجهزة مخابرات أو أجهزة استطلاع- وأن الغثاء الذي يردده هذا يعتبره معلومات مخابراتية.
ولا تقف المأساة عند حدود المذيعين فقط فلابد أن يكون الضيف من جنس المذيع وأن يكون معه على نفس الموجة صوته مرتفع "ومهللاتى"، ويتبارى كل منهما في سرد حكايات جاءت نتيجة طبيعية للنوم بدون غطاء، وعلى المشاهد الغلبان تصديق الهراء الذي يقوله الشخص المسمى بالخبير الإستراتيجى، وبين كل فترة وأخرى لابد أن يؤكد المذيع في بلاهة أن ما تسمعوه حضراتكم يقال في الإعلام لأول مرة، وبين كل جملة وأخرى من ادعاءات الضيف يبتسم المذيع، وهو يقول ياريت نعيد الجملة دى مرة أخرى على مسامع المشاهد الكريم اللى هو حضرتك وحضرتى علشان يعرف حجم المؤامرات على الوطن، والمفترض أن المشاهد الكريم يصدق حكايات أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة، وأن نصفق لهؤلاء ولهذا الهطل ونصفهم بالأبطال ونرفع صورهم في الميادين ونهاجم كل من يهاجمهم، ونأخد روايتهم المكررة السخيفة على أنه كلام مقدس، والمصيبة الكبرى أن تكون بعض أجهزة الدولة تصدقهم فيما يقولون، وللأسف الشديد هناك قطاع كبير من المصريين يصدقون هؤلاء ويعتبرونهم أبطالا.
سيدى أبطال على عينى وراسى ولكن ما النتيجة لا شىء تحقق، ولم تثبت الأيام صحة ما يرددوه، ولا يوجد مكان في العالم يخرج فيه شخص على الهواء، ويقول ما يريد ويفتح ملفات أمن قومى على الملأ دون حساب، ويسحب الجنسية عن فلان ويمنحها لعلان، نحن نريد إعلاما منضبطا يقدر الظروف التي تمر بها البلاد، وأننا في حالة حرب حقيقية، نريد الإعلام الذي يبحث عن حلول لمشاكل الناس، نريد الإعلام الذي يضع مصلحة الوطن فوق كل شىء، وليس لمن يدفع أكثر.