رئيس التحرير
عصام كامل

تفتيش ذاكرة أم شهيد


لا تزال تتذكر كيف كان طفلا ذكيا، نديا، نضرا، شجيا.. لا تزال تذكر أول مرة نهض فيها بعد أن سقط، وحاول المرة تلو المرة حتى مشى ومضى، ضحك وبكى..لا تزال تتذكر أول يوم دراسة عندما استيقظت فجرا، صلت، ثم دعت، ثم أحضرت حقيبة المدرسة.. وضعت فيها طعاما وشرابا وكتابا وكراسة.. لا تزال تذكر كيف كانت تقاوم رغبة دفينة أن تضع لوليدها كل شيء في الحقيبة.

اشتد عوده، ذاكر ونجح، اجتهد وعبر سنة تلو أخرى.. كان يهوى اللعب في الشارع وهي تخشي عليه السيارات وغير السيارات.. كانت تراقبه بقلب يرفرف مع كل سقطة على الأرض وهو يحرس المرمى.. تضمد جراحا خفيفة، وهي تلعن أبو الكرة وعشاق الكرة.. تلك التي أدمت قدميه.. تنهاه عن اللعب في الشارع أو الحارة، ثم تقنع نفسها بأن تتغاضى وتتركه يمارس هوايته.

لم يكن كائنا حيا، بل كان كل الحياة.. لم يكن طفلا بل كان نبيا، يحمل إلى قلبها كل معانى الحب والتسامح والأمل في غد تسند فيه ظهرها على الجبل الذي تربيه.. لم يكن شابا بل كان حيوية تملأ الدنيا من صخب الدفء ما يملأ عليها الحياة.. ربما كان لها أطهر من ملاك وأنقى من ماء الجنة.. كان رقراقا كجدول ماء في صيف لم تنطفئ ناره بعد.. كان كل شيء لها.

لم تنس الأم عندما قال لها إنه غدا سيكون تحت أمر الوطن.. غدا سيصبح رجلا، بطلا، جنديا في جيش بلاده.. في تلك الليلة أعادت ترتيب الحقيبة.. وضعت طعاما وشرابا..و..،و..، وكم كانت تريد أن تضع قلبها داخل الحقيبة؛ ليكون درعا له إذا ما خاض حربا أو طالته أيادي الشر.. باركته ولفت ذراعيها حول عنقه تغلفه بحنان اعتاده مذ كان صبيا، لا يعرف غيره زادا في الحياة.

ذهب الصبي وعاد ولا تزال أمه تراه جيشا وحده.. كتيبة وحده.. لواء وحده. درعا وحده.. كم كانت تفاخر جيرانها وأهلها وبقية أولادها بذراعيه المفتولتين وعينيه اليقظتين وصدره الجسور، وهمته التي لا تلين.. واليوم عاد.. عاد روحا طاهرة.. جسدا مغلفا بعلم بلاده، والأم لا تزال تدور حول الجثمان تبحث عن روحه الصاعدة إلى جنات العلى.. لا تزال الأم تحتفظ بحقيبة وضع فيها كل شهاداته.. ربما تضيف إليها آخر شهادة.. شهادة حياته الأبدية دون أن تضع طعاما أو شرابا بعد أن سكن الألم صدرها إلى الأبد.

الجريدة الرسمية