رئيس التحرير
عصام كامل

التمويل الأجنبي الحلال


حكومة تحيا على المعونات تعاير وتشوه مؤسسات مدنية تحصل عليها من نفس الجهات الخارجية الداعمة لها، ومواطن يحصل على خدمات مقدمة من مشروعات حكومية بدعم خارجى، يجلس أمام شاشات التلفاز مستمتعًا بتشويه مؤسسات تقدم له دعمًا بأموال حصلت عليها من نفس الجهة الخارجية.

مواطن يسعد برصف شارعه وتطعيم طفله وتحسين وسائل تعليمه داخل مدرسته عبر مشروعات مشتركة بين الحكومة والجهة الخارجية المانحة لها، ويفرح في الوقت ذاته بتشويه مؤسسات مدنية دعمتها نفس الجهة الخارجية لتواجه إساءة معاملته داخل قسم شرطة وترفض تعطله عن العمل بعد إنهاء تعليمه، وتراقب انتخابات تأتى بنواب يتحكمون في تفاصيل حياته اليومية بالتشريع والقانون.

مواطن مقهور طوال العام، حائر في مواسم الهجوم على المنظمات خاص مع اقتراب موعد كل انتخابات، تلك خلاصة رسالة دكتوراه حضرت في موعدها تمامًا، ناقشتها جامعة عين شمس قبل أيام، حملت عنوان "التقييم الاجتماعي لبعض مشروعات المنظمات الأجنبية العاملة في مجال التنمية".

الدراسة التي أرفع القبعة لصاحبها الصديق ولاء جاد الكريم، استهدفت إجراء تقييم اجتماعي لبعض مشروعات المنظمات الأجنبية العاملة في مجال التنمية، اعتمادًا على النهجي الحقوقي، من خلال معرفة درجة وفاء المشروعات بالحقوق المرتبطة ببعض الخدمات العامة، والتعرف على مدى تأثير المشروعات على بعض جوانب نوعية الحياة للمستفيدين.

وسعت الدراسة إلى تقييم نمطين مختلفين من أنماط مشروعات البنية الأساسية الممولة من خلال المنظمات الأجنبية، أحدهما تم تنفيذه بالتعاون بين منظمة أجنبية وشريك محلي حكومي، والآخر بالتعاون بين المنظمة الأجنبية وشريك محلي من منظمات المجتمع المدني.

كما استعرضت وصفًا إحصائيًا لمساهمات المنظمات الأجنبية في التنمية بمصر خلال الفترة من 2001 – 2010، وهى الفترة التي نشطت خلالها جهات التمويل الأجنبي في مصر وبلدان المنطقة العربية ودول العالم الثالث، خاصة عقب تغيير أمريكا وبلدان غربية نظرتها إلى دول تغيب عنها الديمقراطية بفعل أنظمة شاخت على مقاعدها، ونتج عنها إرهابًا "مُصدرًا" إلى خارج حدودها، مثلت تفجيرات 11 سبتمبر ومدريد أبرز عملياته ومظاهره.

وقدرت الدراسة حجم الأموال التي تلقتها مصر خلال هذه الفترة في صورة منح ومعونات بمبلغ 20 مليار دولار، واحتلت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية المرتبة الأولى في حجم المساهمات الإنمائية بنسبة 29% من إجمالي مساهمات المنظمات الأجنبية.

وشرح الباحث الأطر والآليات المنظمة لعمل المنظمات الأجنبية في مصر، مستعرضًا التطور التاريخي المرتبط بالمساعدات الأجنبية للدول النامية عموما ومصر على وجه الخصوص، وكشفت الدراسة عن قرارات أممية ملزمة للدول الغنية بتقديم ما يعادل 0.7% سنويًا من ناتجها القومي الإجمالي في صورة منح ومساعدات غير مشروطة للدول النامية، وهو مالم تصل إليه أي من الدول الغنية حتى الآن.

وحسب الدراسة، كانت مشاركة المواطنين أكبر في المشروعات الممولة من جهات أجنبية التي نفذتها منظمات مجتمع مدني أهلية، مقارنة بتلك المشروعات الممولة من جهات أجنبية ونفذتها جهات حكومية، ما يعنى انفراد أصحاب القرار داخل دواوين الحكم بالسيطرة على إدارة أموال المنح والمعونات الواردة للحكومة، وتشكيل فرق عمل مشروعاتها من داخل الجهاز الإداري نفسه، دون الاستعانة بخبرات من خارجه أو إضافة فرص عمل حقيقية ولو مؤقتًا تنتشل متعطلين من سوق البطالة، لحساب من حصلوا على أموال المنح بالتوازى مع رواتبهم وأجورهم في الدولة عن نفس ساعات العمل داخل دواوينها.

الباحث أثبت أن المشروعات المشتركة بين شريك أهلي "منظمة مدنية"، والجهات المانحة، كان لها تأثير ملموس على مستوى إتاحة الحقوق، وجودة الخدمات المرتبطة بالحق، ومدي الاحترام الذي تقدم به هذه الخدمات، بدرجات أكبر من التي نفذتها الجهات المانحة مع شريك محلي حكومى، ومع هذا القياس يمكنك كمواطن أن تستمع إلى سكان الدويقة كمثال حى على ذلك، وتبحث معهم عن إجابات لأسئلة مشروعة لهم، أين ذهبت أموال المنح والمعونات التي وردت للحكومات المتعاقبة، لأجل تنفيذ عمليات تطوير أو تحسين شروط الحياة لهم، أو بناء مجتمعات متكاملة جديدة تستوعبهم بأنشطتهم الاقتصادية، دون الإخلال بحقوقهم الكاملة عند نقلهم من المناطق الخطرة أو العشوائية التي يقطنون فيها؟.

دائما ما تبحث الجهات المانحة المتعاملة مع الحكومة، عن شركاء محليين "مؤسسات أهلية"، لتنفيذ مشروعات وبرامج تراقب بها الناتج عن إنفاق أموالها على شراكات مع الدولة، وقياس نسب الإنفاق هناك وهناك يؤكد أن نصيب المؤسسات المدنية من المنح الخارجية لا يزيد على 0.001 % من الدعم الخارجى الوارد لمشروعات تنجزها نفس الجهة مع كيان حكومى في نفس المجال، ولا تسمح جهة أجنبية لنفسها بالعمل مع مؤسسة مدنية داخل دولة، دون إقامة مشروعات مع حكومتها بالأساس.

إذا كان التمويل الأجنبي لمشروعات هادفة وداعمة لحقوق المواطنين وتنمية وعيهم ومجتمعاتهم وتغيير أوضاعهم إلى الأفضل، فهو أمر مشروع بالتأكيد للحكومة والمنظمات المدنية على السواء، ويحتاج دعمه إلى مناخ تشريعي وسياسي يخدم الأهداف الإنمائية العالمية المشتركة خلال الألفية الثالثة، أما إذا دخل حدود دولة لتغيير هوية شعبها أو تصدير الأزمات إليها، فلا مجال لنقاش حول استبعاد التعامل مع مصادره، وهنا تقف الحكومة التي تملك حدًا أدنى من الكرامة، رافضة للحصول على منح ومعونات خارجية تدين بالضرورة حصول المؤسسات المدنية عليها.

كما أن حرية العمل الأهلي الذي تطالب به المنظمات، حق مشروع توازيه مسئوليات كبرى لها عن حماية المجتمع وأفراده من جور السلطة على حقوقه وحرياته بالتأكيد، لكن على مديري وأصحاب هذه المؤسسات ألا يكرروا ما يرفضونه من تعاملات الجهات الحكومية مع أموال المنح والمعونات، فتجد قفزات مادية غير مبررة تغير وضعًا اجتماعيًا لبسطاء خاضوا تجربة العمل الأهلي، وتضخمت ثرواتهم دون مبرر واضح يقدمونه لمن حولهم، ولتسأل كل حكومة حصلت على منحة وكل منظمة حصلت على شيء منها، لماذا لم تتغير أحوال الناس؟

أتمنى أن يأتى اليوم الذي تعيش فيه مصر بلا انتظار لمعونة خارجية، ويظهر فيه متبرعون محليون لمؤسسات وطنية داعمة للحقوق الحريات كافة، كما يتبرعون لجمعيات كفالة اليتيم، وقتها سيختفى التمويل الأجنبي الذي يحصل عليه الجميع ثم يجرمونه.

الجريدة الرسمية