رئيس التحرير
عصام كامل

من ترسيم الحدود إلى إسقاط الدول


ليس هناك من شك في أن جماعة "داعش" الإرهابية هي القضية التي تملأ الدنيا الآن وتشغل الناس في الشرق والغرب على السواء!
في الشرق لأن "داعش" مارست زحفها من سوريا إلى العراق واستطاعت أن تصل إلى مشارف بغداد.. ومن هنا كان من المنطقى أن تحس بلاد المشرق العربى أن الخطر بات يهددها.
وفى الغرب لأن هذه الجماعة الإرهابية أعلنت تحديها للدول الغربية وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وقامت بذبح رهينتين أمريكية وإنجليزية كرد فعل للتحالف الدولى ضد الجماعة.

ويمكن القول إن المزاعم التي أطلقتها "داعش" من أن إعلانها قيام الخلافة في بلاد الشام هي رد فعل لاتفاقية "سايكس بيكو" التي أبرمتها بريطانيا وفرنسا في مايو 1916 عقب الحرب العالمية الأولى، والتي بناء عليها تم ترسيم الحدود بين البلاد العربية هي مجرد تبرير لسلوكها الإرهابى.
وذلك لأن زعمها لو كان صحيحًا فما هو تبرير سلوكها الوحشى تجاه المواطنين غير المسلمين من إجبارهم على دخول الإسلام، والمذابح الجماعية التي قامت بها سواء ضد غير المسلمين أو المسلمين.. وما هو تفسير قطع رقاب الرهائن الغربيين؟
وقد نشر "توبى دوج" أستاذ العلاقات الدولية في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية في مجلة سيرﭭياﭭل في عددها الذي صدر في أكتوبر – نوفمبر 2014 مقالة بالغة الأهمية بعنوان "هل يمكن إنقاذ العراق؟ ناقش فيها مزاعم "داعش" على أن ما فعلته من تحطيم الحدود بين سوريا والعراق هو إلغاء لاتفاقية "سايكس بيكو" الاستعمارية.
ولكن نبين زيف مزاعم "داعش" بهذا الصدد نقتبس النقد الذي وجهه هذا الباحث المرموق لفكرة ربط مسلك "داعش" باعتباره رد فعل لاتفاقية "سايكس بيكو".
"يبين التعامل الرديء مع اتفاقية "سايكس بيكو" لتفسير نشوء ""داعش" المخاطر المتأصلة في توظيف التماثل التاريخى في تحليل الأحداث المعاصرة.. فالاستعانة بنظرية الاتفاقية قد يعطى للمعلقين القشور، لكنها قد تشجعهم أيضًا على رؤية الأزمة الحالية رؤية لها خصوصيتها وإن كانت غير دقيقة.. فهذه المحاولات الرامية لفهم السياسة في الشرق الأوسط قد تؤدى إلى رؤية ثابتة لمجتمعات المنطقة طوال القرن الفائت.. فهى أولًا، تدين الدول التي نشأت بعد الحرب باعتبارها زائفة، نتائج مؤامرات خارجية كتب لها الفشل. والمحصلة لهذا الفهم هي: أن هذه البلاد الزائفة لا يدين أهلها لها بالولاء، ولذلك فهى أصل المشكلة؛ فينبغى أن تستبدل بوحدات أصغر، وأكثر تماسكًا، من شأنها أن تنال من مواطنيها الولاء المطلوب. 
والنتيجة التحليلية الثانية لاستخدام نظرية "سايكس بيكو" أكثر ضررًا، فحين تلغى مصداقية وشرعية دول الشرق الأوسط ونفوذها، يتم السعى للبحث في دينامية أو مبدأ تنظيمى بديل، أي الهوية الدينية للسكان.. فمع اعتبار الإيمان العامل الرئيسى في الشرق الأوسط، الجوهر الثابت الذي هو الأصل، يرتكب أنصار نظرية "سايكس بيكو" خطيئة "العودة للأصل"، وهو تحليل يقود لرؤية تقول إن الحروب الأهلية في العراق وسوريا حروب مأساوية لا يمكن تجنبها، وتنبع من السياسات الإقليمية التي تجد عداوة جماعية عميقة.

ومن ثم تجعل نظرية "سايكس بيكو" من الدين لا الدولة محور تحليل السياسة وصياغتها.. ومن ثم يمكن مقارنة ما يجرى بالشرق الأوسط اليوم بالحرب الدينية التي اندلعت ثلاثين عامًا في أوربا بالقرن السابع عشر، وفسرت الأزمة الحالية باعتبارها صراعًا بين القبائل والطوائف الدينية".

ويمكن القول إنه بالرغم من الأصل التاريخى لنشوء دول العراق وسوريا ولبنان وفلسطين بفضل اتفاقية "سايكس بيكو" إلا أن هذه الدول – ما عدا فلسطين التي وضعت تحت الحماية البريطانية- أسست فيها دول مستقلة وتأسست فيها نظم سياسية تقوم أساسًا على النظام الديمقراطى، بحيث شهدنا فيها أحزابًا سياسية مختلفة في توجهاتها السياسية، وكانت تجرى فيها انتخابات برلمانية ونشأت فيها نخب سياسية متميزة، وقامت فيها جميعًا مشروعات للنهوض الوطنى بدرجات متفاوتة من النجاح.. كما تعيش باقى الدول بعبارة أخرى عاشت هذه الدول بالرغم من الاحتلال الإنجليزى للعراق وخضوع دول أخرى لنظام الوصاية والانتداب.
واستمرت هذه الدول بالرغم من تغير نظمها السياسية تغيرات جوهرية بعد أن قامت بالعراق وسوريا انقلابات عسكرية غيرت ملامحها الأساسية.
ومن هنا يمكن القول إن هذا الرد المتأخر من قبل داعش ضد اتفاقية "سايكس بيكو" التي عقدت عام 1916 وإلغاء الحدود التي تعتبرها مصطنعة ليس سوى محاولة تخريبية واضحة لإسقاط الدول العربية، بزعم أنها مجرد ولايات في إطار خلافة إسلامية شاملة يرأسها الخليفة "أبو بكر البغدادى".. ولو نجحت خطة "داعش" فمعنى ذلك حدوث نتائج بالغة الخطورة على مجمل الدول العربية تتمثل أساسًا في إلغاء الدولة ككيان والارتداد إلى مرحلة ما قبل الدولة حيث يسود حكم القبائل والعصبيات والجماعات الطائفية.

وقد رأينا بعد 25 يناير سقوط الدولة الليبية في يد الميليشيات العسكرية، وسقوط الدولة اليمنية بعد أن وصل الحوثيون إلى صنعاء وسيطروا بالفعل عليها.. وها هي الدولة السورية التي سقطت بالفعل بعد الحرب الأهلية الدامية التي دارت فيها.
والسؤال الذي طرحه بذكاء شديد البروفيسور "توبى دودج": هل في مثل هذا السياق يمكن إنقاذ الدولة العراقية؟
الجريدة الرسمية