رئيس التحرير
عصام كامل

فارس الصحافة الذي ظلمه الجميع


في فجر الثالث من شهر يوليو الماضي، كان القدر قد أصدر قراره بانتقاله إلى العالم الأبدي.. مات يوم جمعة في شهر رمضان الفضيل.. حملناه إلى مسقط رأسه ودفناه في هدوء.. عدنا إلى القاهرة الصاخبة.. وبعدها بأيام أقمنا العزاء بمسجد الحامدية الشاذلية.. لم يحضر عزاءه ممثل عن القوات المسلحة ولم يزدحم سرادق العزاء بأعضاء مجلس نقابة الصحفيين، الذين لم يحضر واحد منهم.. حتى النقيب الذي يحرص على حضور السبوع والطهور- لم يكن ضمن المعزين.. زملاء قليلون من أخبار اليوم من حضروا.. أخبار اليوم نفسها كمؤسسة اكتفت بنشر خبر مقتضب على استحياء وكأن الراحل لم يكن واحدا من عظمائها وكبارها وأساتذتها.. وزاد الطين بلة أن صحفيين كبارا تحدثوا عن المحررين العسكريين أيام أكتوبر وتجاهلوا شيخهم الذي علمهم جميعا.. كان حضوره مدويا طوال حياته، وكان رحيله هادئا إلى أقصى درجة!!


هو محمد صلاح الدين قبضايا، ابن بورسعيد البار والشهير بـ "صلاح قبضايا"، أول رئيس تحرير لصحيفة مصرية معارضة، وأول رئيس تحرير لصحيفة إسلامية تنويرية تصدر من لندن، وفارس الصحافة المصرية بلا منازع، عاش حياته للمهنة فلم يكن واحدا في شلة ولم يكن محسوبا على تيار أو حزب.. كان حزبا وحده، وكان تيارا وحده.. كان ليبراليا حتى النخاع.. عاش لما يعتقد أنه الصواب وناضل من أجله حتى الرمق الأخير.. لم يهادن ولم يتهاون في مصلحة مصر ولم يهن يوما ولم يفرط فيما يناضل من أجله.

كان محررا عسكريا متميزا.. شارك في كل حروب مصر.. أصيب في اليمن وعاد أقوى مما كان.. فقد في حرب الاستنزاف وعاد أعمق مما كان.. شارك في ٦٧ فكان قلمه نبضا يعيد إلى الأمة عزمها وصبرها وإيمانها بالنصر.. كان واحدا من أبطال حرب أكتوبر المجيدة، وكان صاحب أول كتاب عن الحرب.. الساعة ١٤٠٥ هو الكتاب الذي التهمه القارئ المصري والعربى بعد سويعات من انطلاق الحرب المجيدة.

لم يكن صلاح قبضايا صانع أمل بل كان أملا يمشي بين الناس.. ابتسامة ترتسم على وجوه البسطاء.. صاحب مدرسة قل الزمان أن يجود بمثلها.. كان ينتظر قرار الفصل من عمله فلا يترك قلمه ويصر على إكمال ما بيده حتى لو صار في الشارع بعد لحظات.. كان ورق "الدشت" عطره المفضل وكان القلم سلاحه المشهر في وجه الفساد والمفسدين.

تربى صلاح قبضايا في كنف عظماء المهنة.. تتلمذ على أيادى الكبار.. مصطفى أمين.. علي أمين.. موسى صبرى.. جلال الدين الحمامصى.. كان صحفيا ماهرا وكاتبا فذا وعندما أسند الراحل العظيم مصطفى كامل مراد زعيم حزب الأحرار مسئولية إصدار صحيفة الأحرار كأول صحيفة معارضة مصرية، اصطحب معه صلاح قبضايا وبدأ العد التنازلى لهذا الحدث الجلل.

على حين غرة وجد صلاح قبضايا نفسه مرشحا من قبل الحمامصي، الذي سافر إلى باريس في رحلة طويلة لم يكشف الغموض عن أسبابها حتى تاريخه، تاركا أول تجربة معارضة لواحد من أبناء أخبار اليوم.. تحمل صلاح المسئولية وبدأ في أول معارك الحرية.. استكتب في صحيفته ممتاز نصار وفؤاد سراج الدين واستقدم عددا كبيرا من الناصريين والشيوعيين والإسلاميين وأصبح صاحب أول لقب شعبى "رئيس تحرير صحيفة المعارضة".. هكذا أسماها الناس.. صحيفة المعارضة المصرية.

كانت الأحرار تصدر كل إثنين، وكانت تحجز عند الباعة بالشهر وكان أول مانشيت لها "محاكمة ممدوح سالم بسبب فضيحة القطن".. استيقظ الناس على مانشيت يطالب بمحاكمة ثاني أكبر رأس في الدولة، وهم الذين عاشوا سنوات طوالا لا يرون في الصحف إلا تسبيحا بحمد الحاكم وأسرة الحاكم وأصدقاء الحاكم وحكمة الحاكم.. توالت قنابل صلاح قبضايا والجماهير عطشى لصوت معارض حتى ضاق السادات ذرعا بالصحيفة الوليدة فاتصل بالراحل مصطفى كامل مراد، وقال له "افصل الواد قبضايا".

استدعى رئيس الحزب رئيس تحرير الصحيفة وأبلغه بقرار السادات فلم يكن من قبضايا إلا أن قال لرئيس الحزب لو كنت مكانك سأفصل رئيس التحرير فورا، فالمهم أن تستمر الأحرار.. اتفقا على تعيين زميل آخر على أن يقوم قبضايا بتحرير الصحيفة سرا وكان لهما ما أرادا وما خططا له غير أن ذكاء السادات دفعه للاتصال بمصطفى كامل مراد قائلا: الأحرار لسه فيها ريحة قبضايا.. هنا كان لابد وأن يرحل صلاح.. رحل عن بيته الجديد بعد أن أسس له أساسا متينا.. ذهب صلاح وبقيت الأحرار.

خاض تجارب عدة من التدريس في جامعة سوهاج ثم السفر للرياض والتدريس هناك ثم إلى لندن ليصدر صحيفة المسلمون التي لاقت نجاحات كبيرة ثم فصل منها، وانتقل إلى جدة وتولى إصدار صحيفة اجتماعية وهى الصباحية التي كانت توزع في مصر أكثر مما توزع في السعودية وبعدها انتقل من لندن إلى الرياض مستشارا لعدة دور صحفية كبرى حتى عاد مرة أخرى إلى القاهرة.

رفض قبضايا البقاء في منزله وقرر مرة أخرى أن يخوض غمار المعارك، فتولى رئاسة تحرير صحيفة صوت الأمة التي كان يمتلكها في ذلك الوقت المنتج السينمائى الراحل عدلي المولد، ورغم أن حجم الصحيفة لم يكن يليق بتاريخه إلا أنه كان يؤمن أن الصحفي أشرف له أن يعمل في صحيفة تطبع نسختين ولا يبقى في منزله.. وكان يؤمن أن الإنسان يعمل على قدر طاقته وليس على قدر حاجته.. كانت فلسفته أن في المجتمع أناسا لا قدرة لهم وعلى المستطيع أن يتحملهم.

وكان للمرة الثانية على موعد مع بيته الثانى الأحرار، عندما قرر مصطفى كامل مراد تعيينه رئيسا لتحريرها مرة أخرى مع نهايات شهر أغسطس من عام ١٩٩٦م.. عاد إليها وصال وجال وقدم نموذجا صحفيا محترفا.. التزم بقواعد المهنة ومعاييرها حتى غادرها تاركا هذا المنصب للعبد لله مع نهايات عام ٢٠٠٩م وظل قريبا منها ومنا يحرص على نصحنا ويفرح كلما حققنا إنجازا ويأتي إلينا كلما استشعر أننا نعيش أزمة.

دخل قبضايا دائرة الألم والمرض فكان مثالا في الصبر والتحمل وأجري ثلاث جراحات كبرى رافضا أن يعالج على نفقة الدولة.. أنفق مئات الآلاف دون كلل أو ملل أو حتى رغبة في الحصول على قرار علاج على نفقة الدولة التي أعطاها حياته كلها، وغادر الدنيا بكبرياء وإباء.. غادر دون أن تكون في صدره ضغينة لأحد.. لم يزره عضو من مجلس نقابة الصحفيين ولم يسأل عنه واحد من قواتنا المسلحة، ولم تنشر سطور مجده على صفحات أخبار اليوم التي شرفها وأعطاها عمرا ومنحها الكثير من عطاياه وعطائه.. حتى قطاع الإنتاج بالتليفزيون لم يكلف نفسه عناء إزالة التراب من على واحد من أهم أعماله عن حرب أكتوبر ليظل هذا العمل دفين الأدراج رغم عمقه وندرته وأهميته.

عاش فارسا وغادر بطلا لزمن عاشه واحد من الرجال، صابرا على نوائب الدهر، صامدا في وجه المرض، قويا في تحمل آلامه.. غادر بجسده ولكنه لايزال هناك في كل سطر يزلزل جنبات الفساد وفى كل كلمة ملتزمة تنير الطريق للمتعبين الذين عاش لهم قبضايا وعاش من أجلهم حتى آخر لحظة.
الجريدة الرسمية