رئيس التحرير
عصام كامل

يناير.. بين الثورة والمؤامرة!


في الحج كل عام.. تستقبل مكة المكرمة من كل أرجاء العالم من يذهب لأداء فريضة الله تعالى الكبرى، كما تستقبل في نفس الزمان وفي نفس المكان من يذهب إلى هناك للبحث عن عمل.. بل هناك من يذهب للتسول وتبقى النية - وحدها - محل الحساب!

وإن كان ذلك كذلك في فريضة الفرائض وفي أرض الله الحرام.. فما بالكم بغيرها؟.. وإن كان ذلك يحدث في الإلهي المقدس فماذا يمكن أن يحدث في البشري الدنيوي؟

ومن هنا ننطلق إلى قلب الموضوع مباشرة.. الذي لا يعرف المصريون الآن حسما له.. وينبغي القول - والزمان قريب - أن كل عوامل الغضب امتزجت قبل يناير.. صراع اجتماعي قاس ورهيب.. مشاهد التناقض غير معقولة.. بين من يفتشون عن لقمة العيش في قمامة الأغنياء.. والأغنياء يقيمون أعياد ميلاد أبنائهم بل أحيانا كلابهم وحيواناتهم الأليفة بما يصل إلى مبالغ أسطورية تكفي - في الحفل الواحد - لزواج شباب قرية بكاملها.. في حين استأثرت الطبقة العليا بكل شيء.. الوظائف العليا في الخارجية والجيش والقضاء والشرطة.. ووظائف الدرجة الأولى في البنوك والبترول والكهرباء لأبنائهم أيضا أو للدوائر ذات القربى.. وما تبقى منها لا يذهب لمستحقيه.. وإنما لمن يدفع!

المستشفيات تعج بالمرضى الفقراء بينما الكبار لهم مشافيهم، والفقراء منهم لا يسافرون إلى الخارج إنما يذهبون إلى أرقى المشافي المصرية الخاصة.. وأصبحت الرشوة والمحسوبية هي الأصل والعفاف والاستغناء هو الاستثناء حتى أصبح المصريون يحتفون بأي وزير أو موظف كبير شريف باعتباره ليس استثناء فحسب وإنما باعتباره علامة مهمة ومضيئة أيضا!

هؤلاء.. بمشاكلهم وأزماتهم.. استغلتهم جماعة الإخوان وأشعلت فيهم تطلعاتهم للخلاص مما هم فيه، وأشعلت في غفلة من الجميع المطالب الفئوية.. لكنها سبقتها بتعاون خارجي مريب - في التوقيت والأدوات - إلى اختراق وتوظيف أغلب وسائل الإعلام والصحف.. فمثلا - مثلا - أن مرض عصام العريان اعتبروه خبرا وإذا شُفِي اعتبروه خبرا.. وباتت أخبار الجماعة مقررة على كل الصحف الخاصو وفي صدر صفحاتها اليومية بما ينذر ليس باحتواء النظام لها وإنما بمشاركتها للنظام المشهد كله!

قبل ذلك بسنوات صنعت أمريكا في مصر فئات محددة قليلة العدد، لكنها بالحماية أو بالرعاية الأمريكية هائلة التأثير حيث تم ربطها بالإعلام الغربي مباشرة، فضلا عن النفوذ الناعم الطاغي حتى رأينا شخصيات مصرية تلتقي السفير الأمريكي في أي وقت وفي أي مكان، وبعضها اعتبر مرجعا في القرار الأمريكي أكثر من سفير أمريكا في القاهرة نفسه!

ولأن المنطقة ومصر في القلب منها يراد تفتيتها.. وقد حل أوان تفتيتها.. والقيادة في أي عمل بشري تكون دائما لصاحب النفوذ الأعلى يليه الأكثر تنظيما، لذا قاد تحرك يناير كثيرين من أصحاب النيات السيئة.. بينما خرج لأسباب أخرى كثيرون جدا من أصحاب النيات الطيبة والحسنة.. هؤلاء يمهدون الأرض بمناخ الثورة.. وأولئك ناضلوا سنوات طويلة من أجل هذا اليوم.. هؤلاء يدركون أبعاد ما يريدون.. بينما أولئك تحدد طموحهم بطموحات الجماهير في الحرية والعدل الاجتماعي. 

ولأن هؤلاء خيوطهم خارج مصر.. بينما أولئك خيوطهم عند أهلهم المصريين.. لذا كان طبيعيا والحال كذلك أن يحدث ما جرى، ويصعد الأكثر انتهازية وتنظيما فوق نضال الجميع.. ولأن هذا الانتهازي تنتهي خيوطه هو أيضا عند نفس المدير الأعلى الذي تنتهي عنده خيوط "هؤلاء" أيضا.. لذا كان التنسيق على أعلى مستوى ممكن بين الإخوان والمجموعات الأمريكية في مصر، وبدأ بينهم توزيع أدوار متقن حتى لو ظهر في لحظات عكس ذلك.. وكان منطقيا أن يخسر الوطنيون الشرفاء الجولة كلها!

الآن.. نتوقف لنسأل: ما الذي يغضب شبابا نقيا كان يجمع القروش البسيطة في التحرير لتوفير طعام جماعي وظل قبل ذلك اليوم يدفع ولا يأخذ.. يعطي ولا ينتظر مقابلا.. من استبعاده بالمقارنة مع غيره من نماذج مريبة مشبوهة لا عمل لها ولا وظيفة إلا تأجير مجهودهم لمن يدفع، فضلا عن انحرافهم وانحلالهم الأخلاقي؟، من الذي من مصلحته الآن أن يتمايز دوره الوطني الحقيقي عن المتمول المشبوه؟، من الذي ضرب في الشوارع وعانى ليس في يناير وحده وإنما قبلها بسنوات بينما كان غيره يسافر ليتدرب ويقبض بعملات الأرض المختلفة؟

هذا خرج لشعبه ولم يؤمن به.. ولا يمكن مساواته - أبدا - بمن خرج مستأجرا لأدوار ولأهداف مختلفة.. هذا خرج ثائرا حقيقيا.. وذاك خرج متآمرا موجها بما نعرفه وتعرفونه!

ولذا.. فالثوري الحقيقي.. الحقيقي جدا.. أكثر الناس حرصا على الفرز وانتخابه بعيدا بعيدا عن لصوص الثورات والمشبوهين.. أو هكذا ينبغي!

باختصار: الشرفاء خرجوا ثائرين بينما خرج غيرهم متآمرين، ولا ذنب لأولئك أصلا في سلوك ونيات هؤلاء.. على الإطلاق!.
الجريدة الرسمية