تاجروا بالمسيح.. فانتحر المجتمع
لا تطرف بلا سبب.. أو لا تطرف من الباب للطاء. المجتمعات أيضا تطرف.. وتتجنن، وتلقى بنفسها في التهلكة، انتحارا مثلما يفعل الأشخاص.هكذا قالت الصحافة المحلية في زيمباوى الأسبوع الماضى، بعد إعلان أم وابنها الزواج في حفل عائلى بهيج !
انقلبت الدنيا في زيمباوى، بعدما نشرت بيتى مباريكو وابنها فارى صورا لهما على حائط إحدى البلدات الصغيرة يقبلّان بعضهما البعض. قالت بيتى إنها الأحق بجني ثمار عمر ضاع في تربية الولد بعد موت أبيه وقال الولد إنه لن يجد أفضل من أمه.. شريكة حياة. كبر الموضوع، وأهدر زعماء القبائل دم الأم وابنها، ووصفت الصحافة الإنجليزية والفرنسية الأزمة بالارتداد الاجتماعى، أو رد فعل لقسوة حركات تبشيرية نشطت وسط أفريقيا بين القبائل الوثنية.
كفر مواطنو القبائل هناك بالدين. وكفروا بالمجتمع الذي أعطى الحق لمافيا التبشير بممارسة أقسى الضغوط على المواطنين بما لا يرضي الله.. لضمهم إلى صف الله.
يتأرجح مواطنوا زيمباوى، بين المسيحية، وقليل من المسلمين.. إضافة إلى أعداد هائلة من أتباع الديانات الوثنية. أغلب القرى، وضواحى مدن الجنوب تسكنها عائلات من بقايا القبائل القديمة..على عاداتهم وتقاليدهم.. ودياناتهم أيضا، لذلك تتصارع الجماعات التبشيرية على اللحاق بما تجده من بشر بالزوفة..بلا دين.
قبل سنوات، كان التبشير بالعقل والمنطق والموعظة الحسنة، قبل أن يتحول إلى تجارة خرافية المكسب.. وأرباح بملايين الدولارات. تمويل من الخارج، يتلقاه مواطنون في الداخل، لجذب مزيد من الوثنين. ولما "لعلع الدولار" وارتفعت المكاسب، تكونت مافيا أرهبت السكان، لإرغامهم على توقيع وثائق الانتماء للمذهب الملكانى..أو الأسقفى.
قال خبراء فرنسيون، إنهم سبق وحذروا من تعنت جماعات التبشير لكن أحدا لم يسمع. قالوا إن مكاتب التبشير ليس همهم الله ورسله، إنما همهم الدولار ومزيد من الرءوس.. ولا أحد اهتم أيضا. النتيجة أن الوثنيين لم يرفضوا الأديان فقط.. إنما كفروا بالمجتمع.. وعادات المجتمع.. وتطور الأمر لدى فارى وأمه بالكفر بناموس البشر.. ومعالم الإنسانية كلها.
كتبت الصحافة الفرنسية أن قصة فارى وأمه تعنى أن التطرف قد يكون لليمين.. وقد يكون لأقصى الشمال أيضا. مجتمعات كثيرة تطرفت في الدين..ومجتمعات أخرى تطرفت ضد الدين.. وحرقت نفسها.. عندا في نفسها.. ونكاية في المتدينين.
في أستراليا قبل سنوات.. أكلت الفئران ثمار الغيطان، وهددت المحاصيل، فجاءوا بالقطط لتأكل الفئران، فتوحشت وأكلت الأطفال، فأتوا بالكلاب لتأكل القطط، فتوغلت وأكلت العجائز وهاجمت.. الشباب في الحقول.
تُفِسد المجتمعات البدائية، الدين أحيانا، حفاظا على الدين.. وتقتل العقائد كثيرا حفاظا على العقائد. شعوب كثيرة تطرفت في الدين إثر ارتدادات اجتماعية.. وشعوب أكثر تطرفت ضد العادات وضد التقاليد.. وضد الذوق السليم نتيجة ارتدادات اجتماعية أيضا.
في الولايات المتحدة، بعد حرب فيتنام.. ضرب الشباب الأمريكى القساوسة في الشوارع، واغتصبوا الراهبات بعدما وجدوا أن الإيمان الذي يدعو له الكهنة، لم يمنع جيش بلادهم من التمثيل بجثث الفيتناميين أقصى الشرق بدعوى الحفاظ على سلامة الولايات المتحدة أقصى الغرب. وفى الصومال، انفجرت ماسورة جماعات جهادية تدعو للدين على طريقتها، فقتلت النساء، وفرضوا الحجاب على البنات قبل الخامسة من العمر، عندا في مشايخ رسميين.. احتكروا العقيدة، وركبوا السيارات المرسيدس السوداء آخر موديل، بينما المجاعة تأكل الأطفال.. والأوبئة تحصد المئات كل يوم في العراء.. بلا غطاء.
كتب الصحفي الإنجليزي، روبرت فيت، الأسبوع الماضي، في النيويورك تايمز، أن فارى لم يتزوج أمه حبًا.. إنما كفرا بمجتمع.. حرم الوثنية ثم تاجر بالدين، وقيّم أعداد المؤمنين.. بالدولار.
كما لو أن الولد وأمه أرادا أن يقولا: سنعيش بلا دين.. وبلا مجتمع أيضا. قال فيت، إنه انتحار اجتماعى. عنده حق.. فالمجتمعات تنتحر أيضا!