جناية الاستبداد
كان صدام بجبروته واستبداده نموذجًا ممتازًا لتوافر المناخ الملائم والأداة المناسبة للإدارة الأمريكية التي قامت بتوظيفه لخدمة أهدافها في السيطرة على منابع النفط في منطقة الخليج.. إذ فهم الرجل من السفيرة الأمريكية "أبريل جلاسبى" أنه رجل أمريكا الأول في المنطقة وأنه يستطيع أن يمضى في تحقيق طموحاته كيفما يريد.. وكانت محطته الأولى الكويت التي رفضت الانصياع لرغباته وطلباته بناءً على توجيهات الإدارة الأمريكية.. وكان أن غزاها صدام في ٢ أغسطس عام ١٩٩٠..
وعلى الرغم من المحاولات التي بذلت لإقناعه وإقناع الرؤساء والحكام العرب بضرورة إجلاء القوات الغازية من الكويت بشكل سلمى، وتجنيب المنطقة ويلات الحرب والخراب والدمار، فإن أمريكا كانت تتدخل في الوقت المناسب لإفشال تلك المحاولات، وكانت حرب عاصفة الصحراء بقيادة "شوارزكوف" في ١٧ يناير عام ١٩٩١..
وفعلا تم طرد قوات صدام من الكويت، كى ترسى قواعدها في منطقة الخليج من ناحية، وحتى يتحول الصراع العربى- الإسرائيلى إلى صراع عربى - عربى، من ناحية أخرى، أراد "شوارزكوف" أن يكمل ما بدأ، وأن يصل إلى بغداد، لكن "بوش الأب" أمره بالتوقف، لأن مسألة العراق لم يحن أوانها بعد.. وقد كان، فى ٢١ مارس عام ٢٠٠٣، تم غزو العراق.. وفى أقل من ثلاثة أسابيع، أي في ٨ أبريل، تم احتلال العراق.. وجاء "بول بريمر"، لكى يحل مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش.. ناهينا عن حرب الإبادة التي ارتكبتها القوات الأمريكية في حق الشعب العراقى.. وانتهت العراق التي نعرفها..
وكان "نورى المالكى"، رئيس الوزراء السابق للعراق، نموذجًا آخر لتوافر المناخ الملائم والأداة المناسبة لتحقيق أهداف الإدارة الأمريكية.. فقد مارس الرجل قدرًا كبيرًا من الديكتاتورية والاستبداد، والفساد والإفساد، فضلا عن تأجيج المزيد من الصراع المذهبى بين أهل السنة والشيعة، وإيقاظ النزاعات العرقية بين العرب والأكراد..
ولا نستطيع أن ننسى إصراره على تنفيذ حكم الإعدام في الطاغية صدام حسن صبيحة يوم عيد الأضحى، وكأنه يقدمه كأضحية في هذا اليوم، لقد شكل الرجل ميليشيات شيعية تقتل على الهوية والأسماء، ولقي أهل السنة في سجونه تعذيبًا وحشيًا يشيب لهوله الولدان، لدرجة أنهم كانوا يوسطون أقاربهم للانتقال من جحيم سجونه إلى سجون أمريكا في العراق، بالرغم من قسوتها وشدتها وشذوذها، كان هناك بقايا رجال صدام الذين يحملون تراثًا وثأرًا من "المالكى" ورجاله وميليشياته.. وهؤلاء انتظروا الفرصة تلو الأخرى كى ينتقموا ممن سموهم "سوء العذاب"..
في هذه البيئة النموذجية، نشأ "داعش".. ففى ١٥ أكتوبر من عام ٢٠٠٦، اجتمعت مجموعة من الفصائل المسلحة التكفيرية ذات الفكر "السلفى"، وأنشأت تنظيمًا واحدًا تحت قيادة "أبو عمر البغدادي".. وفى ١٩ أبريل ٢٠١٠، قتل "أبوعمر البغدادى"، وأصبح "أبو بكر البغدادي" زعيمًا، حيث شهد التنظيم في عهده توسعًا في العمليات النوعية المتزامنة..
في ٩ أبريل ٢٠١٣، أعلن "أبو بكر البغدادي" دمج فرع التنظيم (جبهة النصرة) في سوريا مع "دولة العراق الإسلامية" تحت مسمى "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وقد تبنى التنظيم عملية تفجير السفارة الإيرانية في بيروت، وفى ٣ يناير ٢٠١٤، تم إعلان استقلال الدولة، وفى ٢٩ يونيو ٢٠١٤ تم الإعلان عن الخلافة، وأن "أبوبكر البغدادى" هو الخليفة.. ولطبيعة فكر التكفير، دخل "داعش" في حرب ضد الجميع؛ الجيش العراقى، الجيش السورى، الجيش السورى الحر، حرس الثورة الإيرانية، الجيش التركى (على الحدود)، حزب الله، البشمركة، جبهة النصرة في سوريا، وميليشيات شيعية متنوعة.. إلخ.
لقد رصدت الإدارة الأمريكية "داعش" منذ نشأته، وعملت على توظيفه واستثماره لإخافة وتفزيع دول المنطقة من ناحية، وإعداد المناخ لخريطة عرقية وطائفية ومذهبية جديدة من ناحية أخرى.