المثقف الحافي والمثقف العاري
السند الحقيقي لأي مثقف هو قدرته على التواصل مع الجماهير، أن يشعر بهم ويتحدث لهم وعنهم، وأن يكون لديه رصيد من الثقة الشعبية فيه، ذلك المثقف هو من سيتمكن من مواجهة التحديات، وتقديم الطرح القوى الحقيقي القادر على تطوير الواقع وتغييره نحو الأفضل، أما المثقف المنطوي المنعزل، مثقف النخبة الرفيعة، والاجتماعات المغلقة المكيفة، والذي يعيش في أبراج عاجية خاصة به، خط سيره من البيت للقنوات الفضائية، ومن القنوات الفضائية إلى استلام الجوائز وحفلات التكريم، ذلك المثقف مهما كان قادرًا على تحقيق مكاسب مادية، هو في الحقيقة مثقف عارٍ، بلا أي سند حقيقي في وجه الواقع والمجتمع.
المثقف الحافي من وجهة نظري هو الأفضل، مهما كانت ظروفه صعبة أو واقعه مريرًا، فإن تحمله مسئولياته تجاه وطنه وتجاه مجتمعه هو المحك الأساسي، ومهما تأخر الاعتراف بقيمته وإبداعه فبالتأكيد سيأتي الوقت الذي يتاح له التقدير والتكريم، وأمل دنقل خير مثال على ذلك، وإن كنا مجتمعًا يعرف تمامًا سلوك التكريم ولكننا مازلنا لا نعرف كيف نستفيد من إنتاج وإبداع من نكرمهم.
حقيقة إن المجتمع انصرف عن الثقافة منذ عقود، وهو أمر واقع، لكن مع ذلك يبقى في العمق من المجتمع المصري بذرة ثقافية وحضارية كامنة لا يمكن لها أن تموت أبدًا، وما أدل على ذلك من دعاوى الحداثة والعصرنة التي كانت تطلق في مئات المناسبات، دون أن نجد إجابة لها، ثم فجأة نجد الراب هو المسيطر الآن على الأفراح الشعبية، ونجد تطورًا جديدًا في الذوق المصري، بغض النظر عن قيمته الأخلاقية التي أختلف معها كثيرا، لكنه تطور دال على كيفية الاستفادة حتى في الأفراح الشعبية من متغيرات العصر، كيف أصبح الكاريوكي والدي جيه والميكس هى سمة كل الأفراح مهما كانت بسيطة أو في حوارٍ فقيرة.
هذا الشعب يحتاج من يستطيع أن يخاطبه بلغته، صحيح المشوار طويل وصعب، ولكنه أيضا هام ولا بد منه، في اعتقادي أننا نفتقد من لديه القدرة على تبسيط المعلومة، وعلى مخاطبة الناس على قدر عقولهم، وعلى تقديم احتياجاتهم وإفهامهم كيف أن جزءًا من كتاب يومي يقرؤه كل مواطن سيسهم في حل مشكلة انقطاع الكهرباء وضعف التنمية وتأخر البطالة وضعف الرواتب وغيره، لا أعفي طبعًا الباقي من مسئولياته، ولكني أطلق الصيحة للتنبيه والتوعية حول خطورة المثقف العاري، المثقف الذي يرتدي أفخم الثياب لكنه مع ذلك دون سند من الشعب، وكذلك أيضا خطورة ضياع جهود المثقف الحافي الذي قد يكون أحيانا يتحمل من أجل تثقيف ذاته وتقديم طرحه من قوت يومه، لكن رغم ذلك فإنه قد يقع تحت تأثير النخبوية، فضلا عن كوننا في أمس الحاجة لدراسات ثقافية تدرس وتحلل وضعنا الراهن وتحاول إيجاد إجابات عن العديد من التساؤلات.
الثقافة ليست رفاهية كما يتصور البعض، الثقافة أسلوب حياة، ولها تأثير مباشر وغير مباشر أيضا على الحياة، نحتاج لطفرة ثقافية، ورؤية لإعادة إحياء وإنماء البذرة الحضارية في نفوس المصريين حتى نعوض ما فاتنا من محطات كثيرة تجاوزها قطار الحضارة البشرية.