في الهنك والرنك!
نتكلم كثيرا ونعمل قليلا.. نستهلك الوقت في توافه الأمور ونظن أننا نعمل ما يجب عمله.. نبحث عن الشكل وننحي المضمون جانبا.. تستهوينا الحارات الضيقة عن الشوارع الواسعة.. تأخذنا التفاصيل إلى حيث تنتظرنا الشياطين.. يبهرنا الرأي الشاذ لأنه يخالف رأي المجموع.. يشدنا الصوت العالي مهما كان خطأ ولا نتوقف أمام الصوت الهادئ ولو كان صائبا..
تحولت الثوابت إلى متغيرات، واجتاحت وجهات النظر كل شيء !! فصارت الخيانة مقبولة عند البعض تحت عنوان وجهة نظر، وصارت الوطنية خيانة عند البعض تحت عنوان حرية التعبير !! حقوق الإنسان صارت حقا لإنسان دون إنسان آخر.. أشهر كل واحد سيفه في وجه أخيه، ومن السيوف الخشب والفولاذ، المهم أن تشهر سيفا والسلام.. ليس مهما من تقتل ولأي سبب تقتل..المهم أن تمارس القتل ! والقتل أنواع، منه المادي والمعنوي سواء كان بالسيف أو السكين أو الرصاصة أو بالكلمة ! كلها أدوات مشروعة وغير مشروعة للقتل في ذات الوقت.
أصعب أنواع القتل هو القتل بالكلمة، فلا موت فيه ولا حياة، ونحن الآن نعيش حالة الاغتيال بالكلمات في ساحة الإعلام وميادين البرامج الحوارية وفي فضاء التواصل الاجتماعي الذي لا أحد يرى أحدا فيه وغالبا لا أحد يعرف أحدا إلا قليلا وفيه ينقلب الحق باطلا والباطل حقا !
ويبدو أننا نعشق النميمة ونردد ما ليس لنا به علم، وننقله عن غيرنا كحقائق مسلمة دون بذل أي جهد في معرفة ولو جانب يسير من الحقيقة، رغم أننا نتكلم على مدى الساعة عن الشفافية والوضوح والصدق.. والواقع أننا نؤذن في مالطة!
في بلدنا المحروسة كل شيء وعكسه، لذلك نقول دائما إن الشعب المصري ليس له كتالوج.. فجأة تجده يتصرف بشكل يبهر الجميع، وفجأة تجده يتصرف بشكل يصدم الجميع، في لحظة تجده يثق بقضائه، وفي لحظة أخرى يشك فيه ويتهمه بالتسييس، ولا يخجل من يقول ذلك ويجهر به..
في قضية القرن تحول الناس إلى قضاة وأطلق كل فرد لنفسه العنان يقول ما يشاء عن علم أو جهل وهو لم يقرأ حرفا في ورقة من أوراق القضية، وفتح الإعلام مكلمة دون أن يدرك مدى تأثير ذلك على الناس عندما يصدر الحكم، ويبرر ذلك بأهمية القضية وأن من حق الناس معرفة كل شيء، فماذا بقي للقاضي من حقوق ؟!
اشتعل فضاء التواصل الاجتماعي وبرز من خلاله جهابذة القول المرسل يفتشون ويعبثون في نوايا القاضي ويقولون ما لا يعرفون..القاضي سيحكم بالبراءة وهو يمهد لذلك..القاضي ينتظر موت مبارك ليطبق نص المادة 14 التي تنقضي معها الدعوى بوفاة المتهم..القاضي خالف الأعراف عندما صور أوراق الدعوى..القاضي سيحكم بالإدانة على البعض وببرئ البعض الآخر.. القاضي بحث عن الشو الإعلامي فقط..مذيعة التقرير دخلت محراب العدالة وعبثت بالأوراق.. ما حدث مدبر ليعطي فرصة لدفاع المتهمين بالطعن على الحكم في حال صدوره إذا حكم بالإدانة.. قناة صدى البلد احتكرت البث وهي قناة للفلول!
وجد كل باحث عن شهرة وشهوة فيما حدث ضالته المنشودة ليدلي بدلوه في بئر ليس فيها ماء وكل ما فيها هواء رائحته كريهة، الحوار ليس من قبيل الهنك والرنك.. هو من قبيل ضرب القضاء والتشكيك فيه.. محاولة يائسة لإسقاطه بعد الفشل الواضح في إسقاط الداخلية والجيش، وللأسف من يسعى لذلك نفر غير قليل من النخبة تستخدم عبارات ملونة وتطرح أباطيل ساذجة!
( بطل هنك ورنك ) كلمات نقولها عندما يكون الكلام مجرد سفسطة لا طائل من وراءها، ومعلوماتي أن ( الهنك والرنك ) هو مقام موسيقي راقص حسب تعريف سمعته من الموسيقار المرحوم عمار الشريعي، وعندما يكون الوطن في حالة بناء فلا يصح أن يشغلنا الكلام الراقص عن العمل الجاد.