رئيس التحرير
عصام كامل

المؤلفات العربية تتجاهل انهيار جدار برلين

فيتو

مر وقت طويل على سقوط جدار برلين إلا أنه ما زالت أصداء هذا الحدث التاريخي ظاهرة في المشهد الثقافي العربي ويبدو تأثيره متباينا، ولكنه شديد الارتباط بالحركة السياسية بمختلف أطيافها اليسارية والقومية والأصولية والليبرالية.

يرصد المتتبعون ضعفا ملحوظا في حضور موضوع انهيار جدار برلين في الأدبيات والمؤلفات الفكرية في العالم العربي، فباستثناء الرسائل الجامعية والأعمال الأكاديمية، لم تسجل خلال العقدين الماضيين أعمال أدبية أو فكرية كبيرة تتناول الموضوع بشكل مباشر.

ويعزو الدكتور عبد الرزاق عيد المفكر السوري المقيم في باريس ذلك إلى إرتباط الإنتاج الفكري في العالم العربي بالفعل السياسي، ملاحظا أن "تأخر رد الفعل السياسي العربي على حدث انهيار جدار برلين كان سببا في ضعف المتابعة الثقافية والإنتاج الفكري حول الموضوع".

لكن المفكر السوري يتفق في الرأي مع الباحث المغربي الدكتور عز الدين العلام أستاذ الفكر السياسي بجامعة محمد الخامس في الرباط، على أن تأثير انهيار جدار برلين كان عميقا في المشهد الفكري في العالم العربي، وان كان هذا التأثير يأخذ أبعادا متباينة بحسب القضايا الفكرية المطروحة والمرجعيات الأيديولوجية: يسارية وليبرالية وقومية عربية وأصولية إسلامية.

تبدو الأدبيات الفكرية للحركات اليسارية أكثر حقل للتفاعلات التي حدثت في المجال الفكري العربي، بعد انهيار جدار برلين، ويرصد الدكتور العلام في مقابلة مع موقعنا، أن "الإنتاج الفكري للتيارات اليسارية في المغرب ظل متأخرا نسبيا في الاعتراف بحدث انهيار جدار برلين الذي كان يرمز لانهيار ايديولوجية وأحلام".

ولاحظ العلام أن جل الحركات اليسارية التي كانت تتبنى المرجعية الماركسية اللينينية قامت في وقت متأخر بمراجعات نقدية عميقة، لكن هنالك استثناءت في المغرب، حيث ما يزال بعضها (تلك الجماعات) يردد نفس المقولات والقوالب الأيديولوجية الجاهزة التي كانت سائدة في العقد الثاني من القرن الماضي في الاتحاد السوفيتي، مثل "صراع الطبقات" و"ديكتاتورية البروليتاريا".

وبرأي الدكتور عيد فإن "الحدث أدى إلى انفجار الحالة اليسارية في العالم العربي، بما كان يرمز اليه الانهيار في الفكر والثقافة"، مشيرا إلى ردود فعل متفاوتة في البلدان العربية التي كانت أنظمتها تستوحي من النموذج الألماني الشرقي أو السوفيتي بشكل عام، مثل سوريا والعراق والجزائر واليمن الجنوبي.

أدت التفاعلات العميقة التي أحدثها انهيار جدار برلين بما كان يرمز اليه من انهيار لمنظومة المعسكر الاشتراكي برمته، إلى مراجعات عميقة لدى عدد من منظري التيارات اليسارية في العالم العربي.

وفي حالة المغرب يرى الدكتور العلام أنه بعد عشرين عاما من حدث انهيار الجدار، يمكن القول بأن "أكبر نتيجة إيجابية تحققت هو اعتراف قطاعات واسعة من الجماعات اليسارية بمختلف أطيافها بأن النظام الليبرالي بما يتضمنه من قواعد ديمقراطية لتنظيم المجتمع الحديث، هو أصلح نهج سياسي وثقافي لمجتمعنا العربي" مشيرا إلى تحول عدد من المنظرين والقيادات اليسارية نحو الاتجاه الليبرالي، ويرصد ذلك من خلال "وجود قيادات يسارية في موقع القرار السياسي بالدولة المغربية وقد أصبحوا من المنظرين لتجربة الانفتاح الديمقراطي في البلد".

وفي الحالة السورية يرصد الدكتورعيد أن سقوط جدار برلين ساعد على تولد وعي لدى فئات من اليساريين مثل حزب الشعب (الشيوعي سابقا) وحزب العمال الثوري، بأهمية أن تكون الليبرالية جزءا من المنظومة الفكرية اليسارية، وأفرزت تلك التفاعلات بروز تيار "يساري ليبرالي".

ولاحظ المفكر السوري في هذا السياق مظاهر تجدد الاهتمام بفكر عبد الله العروي وياسين حافظ، مشيرا إلى كتاب ألفه شخصيا خلال تلك الفترة بعنوان "حداثة التأخر"وهو يبرز منحى تفكير لمفكرين مغربي ومشرقي يتفقان على "أهمية استعادة الوعي التاريخاني واعتبار الليبرالية جزء لا يتجزأ من منظومة الوعي الاشتراكي واليساري، وهو منحى تفكير يتعارض مع الشيوعية التقليدية التي كانت تعتبر الليبرالية ثقافة غزو استعماري" كما يقول المفكر السوري.

من مفارقات ردود الفعل في الساحة الفكرية العربية، أن انهيار المنظومة الاشتراكية جعل بعض النخب الفكرية والسياسية اليسارية تتجه إلى تبني أفكار قومية عربية أو أصولية إسلامية.

ويرى المفكر السوري أن " سقوط جدار برلين كان يعني للكثير من اليساريين هزيمة للإشتراكية وبالتالي دفعت الكثير منهم إلى النكوص وإرتداد باتجاه وعي قومي تقليدي محافظ أو أوصولي إسلامي مناهض للمشروع الغربي".

وفي سوريا حدثت حالات عديدة لمثقفين يساريين إتجهوا نحو معاداة الغرب من منطلقات قومية وأصولية إسلامية، كما يلاحظ الدكتورعيد من خلال تجربته كباحث في الجامعة اليمينة إبان فترة انهيار جدار برلين، أن " انهيار المعسكر الاشتراكي أدى إلى انهيار سياسي في اليمن الجنوبي ومن الناحية الفكرية حدثت حالة لنكوص وتراجع في اتجاه تقليدي وقبلي، ويمكن القول بأن ما حدث هو هدم جدار كان يفصل اليمن الجنوبي عن الثقافة والفكر التقليدي والقبلي".

أما الدكتور العلام فيرى أن تنامي التيارات الأصولية الإسلامية له أسباب معقدة، وان تراجع الفكر اليساري ليس عاملا رئيسيا في إنتعاش الأفكار الأصولية الدينية. لكن الباحث المغربي يلاحظ في المغرب "وجود نوع من الاستنساخ من قبل الإسلاميين اليوم لتجارب يسارية سابقة مثل إدعاء إمتلاك الحقيقة، وبدل مصطلحات وعبارات واستشهادات بكارل ماركس ولينين التي كانت تستخدمها الحركات اليسارية تجد في القاموس الفكري للحركات الأصولية الآن ابن تيمية أو أبو هريرة".

و لا يختلف المفكر السوري عبد الرزاق عيد في الرأي مع الباحث المغربي عزالدين العلام بأن مجال التفكير في الوحدة قد شكل امتحانا عسيرا للمفكرين والنخب في العالم العربي خلال العقدين الذين أعقبا انهيار جدار برلين.

ويعتبر الدكتور عيد أن " انهيار جدار برلين كان برهانا ساطعا للنخب الفكرية في العالم العربي، على استحالة إقامة الوحدة بدون أساس ديمقراطي" وأضاف" أن ألمانيا لم تستعد وحدتها الا على أساس الديمقراطية، والمعنى الذي برز من خلال سقوط جدار برلين هو أن الوحدة لن تتحقق الا بسقوط جدار الاستبداد"، مشيرا في هذا الصدد إلى فشل التجربة القومية الوحدوية بين مصر وسورية.

وفي محاولته لرصد تأثير فكرة الوحدة الألمانية في الفكرالمغاربي، يتناول الباحث المغربي تجربتي الوحدة الألمانية التي تحققت في القرن التاسع عشر على يد أتو فون بيسمارك وتجربة الوحدة التي قامت على أنقاض جدار برلين، ويرى بأن هذين النموذجين من الوحدة الألمانية لم يكن لهما ذلك الأثر الملموس في الفكر والواقع العربي، رغم تأثر المغاربة تايريخيا بالفكر الألماني.

ويضيف قائلا "في منطقة المغرب العربي نرصد في الواقع السياسي تعثرا وفشلا ليس بسبب عوامل موضوعية اجتماعية وسياسية، بل بسبب عوامل ذاتية وحسابات سياسية ضيقة للأنظمة السياسية القائمة في دول المغرب العربي، وعلى صعيد الفكر لا نرصد أي تحولات في مفاهيم النخب لموضوع الوحدة بعد انهيار جدار برلين، بل العكس ما نرصده هو إنتاج مزيد من الأفكار التي تغذي عوامل الانقسام والعزلة والحذر بين دول المنطقة".

هذا المحتوى من موقع دوتش فيل اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل

الجريدة الرسمية