كرباج الديكتاتور.. وثورة المصريين الساخرة
إذا توقف المصريون عن السخرية وإطلاق النكات فاحذروهم..فهذا الشعب مثل الجمل "بيخزن" فإذا فاض به الكيل لجأ إلى طريقته الخاصة في المقاومة الناعمة أو الثورة الصامتة.. وهذه الشخصية تجيد الضحك في أصعب الظروف ولم تستطع المحن أن تهزمها..فإذا استطاع الحاكم الظالم أن يبسط سيطرته وسطوته بالظلم والكرباج...هزمه الشعب المصرى بالضحك والسخرية..ويكفى ما فعله ابن مماتى عندما أراد أن ينتقم من بهاء الدين قراقوش فأبرز الجانب الديكتاتورى والشاذ في حياته، ما جعله أضحوكة على لسان الشعب.
وصفحات التاريخ وحكاويها تمدنا بالعديد من نماذج الثورات الضاحكة للمصريين.. ففى سلطنة الأشرف برسباى المملوكى عام (938 هـ 5341م) حدث ارتفاع شديد في أسعار القمح حتى وصل سعر الأردب إلى 063 درهمًا فضجت العامة واستغاثوا من قلة الخبز في الأسواق مع كثرة وجوده في الشون.. ووقف العوام للسلطان وأخبروه بعدم وجود الخبز مع كثرة القمح فلم يلتفت إليهم والواقع أن السلطان لم يكن ليفعل شيئًا لأنه ببساطة كان يحتكر تجارة القمح وغيرها من السلع الإستراتيجية وكان يتبع سياسة طرح البضائع فهو يشتريها من الفلاحين بأسعار زهيدة ثم يبيعها للشعب بأسعار مرتفعة.. والشعب كعادته مرغم على الشراء ومطلوب منه أن يهتف بحياة السلطان.. وقدرته على مواجهة الأزمات رغم أنه رأس الفساد.
ووسط هذه الظروف السيئة وانتشار المجاعات وانخفاض مستوى النيل واختفاء الخبز من الأسواق، خرج المصريون عن صمتهم في عهد الظاهر جقمق العلائى عام 458 هـ 0541 م، ليثوروا على هذه الأوضاع ولكن بطريقة عليها بصمة المصريين.. فكيف يواجهون استبداد الحاكم وفساد المسئولين والأمراء والوزراء؟!
إنها السخرية من كل هؤلاء.. فكانت الطبقات الشعبية تخرج في الشوارع تنشد العديد من الأغانى التي تزخر بالنقد اللاذع للسلطان وحاشيته. ولم ينسَ المصريون أهم ما يميزهم.. وهو القدرة على استخدام التورية للاستهزاء بمن يتاجرون بأقواتهم.. فقد أطلقوا العديد من الألقاب التي تشير إلى التهكم والسخرية.
فالأمير سيف الدين مكتمر الناصرى أطلقوا عليه 'الدم الأسود' والأمير ناصر الدين أطلقوا عليه 'فار السقوف' والأمير طشتمر البدرى كان الاسم الحركى له 'حمص أخضر'.. وأطلق المصريون على الأمير قطلوبغا الفخرى لقب 'فول مقشر'.
كانت الضحكة هي سلاح المقاومة ولأن الضحك حالة مقاومة إبداعية تسعى بالضرورة للاشتباك مع السلطة؛ فقد تعرض لمهاجمة السلطة قديمًا وحديثًا.. وكان أفلاطون في معرض حديثه عن جمهوريته الفاضلة يحذر من الضحك وينفر منه لما له من قوة هائلة على تحويل خطوط الدفاع القوية للسلطة إلى سلاح من قش.
ومصر هي البلد الوحيد الذي ما أن يذكر البحر فيه حتى يبرز السؤال البدَهى عندهم..(البحر بيضحك ليه) وكأن الضحك أو (الألش) هو سلاح الشعب السرى الذي ذل الطغاة على مدى عقود من الفساد والإهانة والعيش في اغتراب داخل الوطن.
ولم تختلف نزعة المصريين “الضاحكة” وعندما وقعت هزيمة يونيو 1967، كانت النكتة هي السلاح الذي انتقم به الشعب من سلطة خذلت أحلامهم..فقرر الشعب أن يشرع أقسى سلاح لديه..لسان يشبه "المبرد" وصب المصريون جام غضبهم على الواقع والسلطة نكاتًا، وإفيهات تبادلوها في المواصلات وجلسات السهر وقاعات المحاضرات. وخرج ذلك السلاح..سلاح الضحك إلى العلن في كل مراحل التاريخ لينتقم بصورة صامتة من حكامه.. ففى ثورة الخامس والعشرين من يناير ليحول صبر 30 سنة من حكم "مبارك" إلى ماكينة نكت وإفيهات.
تستطيع السلطة أن تفرض هيبتها بالقوة والبطش..وفي المقابل يستطيع المصرى أبولسان "مبرد" أن يحول هذه الهيبة إلى خيال مآتة بفنون التريقة والألش والقافية والمسخرة و"النأوزة"..فاحذروه وتجنبوا ثورته الساخرة.