رئيس التحرير
عصام كامل

الفصل الأخير !


ربما يسدل الستار اليوم نهائيا عن محاكمة مبارك المشهورة بمحاكمة القرن.. أو ربما تتدخل عوامل أخرى.. لكنها وفي كل الأحوال المحاكمة الوحيدة وربما في التاريخ المعاصر كله التي أصدر الناس حكمهم فيها قبل صدور حكم القاضي.. أصدروه بضمائرهم الحية على الجانبين.. وباستبعاد اللصوص ومن ضاعت مكانتهم ونفوذهم بل وجبروتهم في عهده، واستبقاء تقييم الشرفاء لعهده وكثيرون من مؤيديه شرفاء لا تربطهم به رابطة، وكثيرون من خصومه شرفاء، لم تصبهم منه إصابة واحدة شخصية، إنما حكمهما على الجانبين موضوعي، وحيثيات كل من الجانبين فيما يلي:


مؤيدو مبارك يرون فيه باختصار أحد أبطال حرب أكتوبر الذي له علامة على أعداء مصر التاريخيين وأنه عبر بمصر من الحروب والمؤامرات في عهده الذي كنا نعيش فيه في أمن وأمان لم نشكُ من أزمات الكهرباء ولا الغياب الأمني وأن مبارك قدم الكثير لهذا البلد من إنجازات على الأرض من مترو الأنفاق إلى المدن الجديدة إلى تعمير الطريق الصحراوي بين مصر والإسكندرية ويكفيه فخرا أنه لم يدخل حربا يقتل فيها أولادنا وترك السلطة والاحتياطي النقدي يتجاوز الثلاثين مليار دولار أمريكي وهو إنجاز كبير في ظل الزيادة السكانية التي تلتهم كل شئ وأن الرجل بلغ من العمر أرذله وبما لا يستحق معه الإهانة والبهدلة!.

أما خصوم مبارك فيرون في عهده عصرا للفساد والنهب واللصوصية وأن أبناءه تصدروا المشهد كاملا، وهو العصر الذي بيعت فيه ثروة مصر بأبخس الأثمان رغم أنها ملك للشعب المصري وأن عهده زادت فيه معاناة المصريين بتخلي الدولة عن دورها فتدهورت الخدمات الصحية والتعليمية وانهارت المرافق العامة وانتشرت الرشوة والمحسوبية على كل المستويات وتراجع دور مصر الإقليمي والعالمي وذهبت مكانتها القيادية إلى غيرها وكانت تدور في دائرة السياسة الأمريكية وأنها جرائم لا تدعو للرحمة معه أبدا حتى لو تجاوز التسعين!.

كثيرون من الفريق الأول عانى من المحسوبية والفساد وهم يدركون ذلك، فتجد كثيرين منهم عانوا مثلا من عدم تكافؤ الفرص ولم يستطيعوا إدخال أبنائهم أو إخوتهم أو أنفسهم كليات الشرطة أو الحربية أو الالتحاق بالخارجية أو القضاء وقطعا أغلبهم ذاق المعاناة في مستشفيات ودواوين النظام المذكور، وكثيرون من أنصار الفريق الثاني تمتع بمترو الأنفاق ومن تغيير شكل الطريق الصحراوي ومنهم من يسكن مدن مبارك الجديدة، لكن إلى كليهما نقول:

مثل أسماء الله الحسنى فالله الرحمن الرحيم لا يمنع كونه الجبار المنتقم، ومثل أقانيم المسيحية الثلاثة الآب والابن والروح القدس، وهي كلها لإله واحد، وكذلك فلا يمنع كون مبارك أحد أبطال أكتوبر الكبار أن يكون سياسيا فاشلا أعاد مصر إلى الوراء أعواما كثيرة، فهو أصلا جاء أو اختير ليهزم الزيادة السكانية لا ليتحجج بها، فنسبة الزيادة ثابتة لم تتغير منذ بداية القرن - النسبة وليس مقدار الزيادة - ولم تكن مفاجأة بأي حال، ولم يلزم أحد مبارك أن يبقى في السلطة أمام مشاكل لا يعرف لها حلولا، غيره حلها بالتخطيط والحسم، من الصين إلى ماليزيا، ومن باكستان إلى أندونيسيا، ومن البرازيل إلى الهند، وكل هذه الدول تقدمت من التخلف.

أما مصر فقد قدمت شيئا جديدا..إذ تخلفت من حيث فرص التقدم بصورة مبهرة..وطبقا لإحصائيات المؤسسات الدولية - الدولية وليست المحلية - كانت مصر وحتى سنة 70 تسير اقتصاديا جنبا إلى جنب مع كوريا الجنوبية التي هي الآن سادس أقوي اقتصاد في العالم..!! والتحجج بالضغوط الأمريكية في زمن القطب الأوحد غير مقنع إذ هربت منه كوريا نفسها وصارت صناعاتها تغزو الدنيا..لم يجبر أحد مبارك أن يتستر أو يصمت على نهب أموال البنوك..وعندما طالب المصريون بتشريع حازم صدر قانون عدم الإبلاغ على هذا النوع من الجرائم إلا من البنك المركزي فقط!!.

ولم يجبر أحد مبارك على سحل القضاة في عهده كسابقة أولى في العالم ولم يكونوا "إخوان" ! ولا على ضرب نواب الشعب في الشارع كسابقة أولى أيضا ولم يكن لضبطهم بالتجسس إنما لمجرد خلاف على دعم العراق ضد أمريكا ! ولم يجبر مبارك أحد على الصمت عن استعباد الكثيرين من رجال الشرطة للشعب بلغ حد القتل العلني في الشوارع وكان في عصر حرية الصحافة يعلم بكل شئ..وكان يتهاون أيضا في كل شئ!!.

لم يجبر أحد مبارك على تدهور التعليم ولا تدهور المستشفيات العامة ولا على العشوائية في كل شئ ولا على البيع الرخيص لأموال الناس في الخصخصة..ولا على التهاون في حقوق مصر من التكنولوجيا والمعرفة وهو ما أدى إلى التخلف نوويا وتوقف صناعات ومصانع مهمة مثل النصر للسيارات وغيرها..ولم يجبر أحد مبارك على تزوير الانتخابات تلو الأخرى وهي إرادة الأمة والشعب وهي جريمة الجرائم ورغم ذلك لعب مع الإخوان لعبة الختام حتى أوقعوه وأوقعونا معه !.

الكلام كثير، والحقائق ساطعة أمام الناس والتاريخ..ونتائجها أمامنا تشهد بالحق..وهذا كله كما قلنا لا يمنع ولا ينفي بطولته في أكتوبر ولا يخفي عجزه وضعفه الآن..فمبارك شئنا أم أبينا هو هذا كله..وهناك من يطلب العفو الإنساني عنه رغم كل ما سبق..وهناك من يريد قصاصا وطلبا للعدل، ومنهم أيضا مرضى بداء التشفي والانتقام والهيستريا الدائمة !.

أنت.. وحدك.. عزيزي القارئ من لك الحق أن تختار في أي نوع من هؤلاء تكون.. هذا حقك المطلق.. ولك في التاريخ سوابق ولك أيضا في الإسلام نموذج ومثال.. ففي الإسلام عقاب يهود المدينة على خيانتهم وفي الإسلام أيضا "اذهبوا فأنتم الطلقاء "..وبين هذه وتلك..يجب أن لا ننسى ما يلي:

أولا: أن المحاكمة التي ستنتهي اليوم جنائية وليست سياسية..قانونية وليست ثورية..ومن الخلط بين هذا وذاك تأتى الهلوسة.. فالدليل المادي في الجنائي هو اليقين..وفي السياسي فقد حكم الناس والتاريخ على الأمر كله وانتهى الأمر!.

ثانيا: احترام القضاء والقضاة قدس الأقداس..حتى لو حكموا على عكس ما نريد..فحتى لو فاتنا من عدل الحاضر والماضي شئ..فبقاء حصون العدل يعطي الأمل في الحصول على العدل في المستقبل..وبئس تلك الأمة التي تهدم مستقبلها حتى لو كان من أجل ماضيها وحاضرها..بئس هي !.
الجريدة الرسمية