الحريري.. والسرجاني!
ما يرمي القلوب عند فقدان نماذج إنسانية رائعة، مثل " أبو العز الحريري" وخالد السرجاني أن رحيلهما يأتي بينما الوطن في أشد الحاجة إلى الشرفاء من أمثالهما، الذين اعتادوا العطاء للبلد دون حدود.. وبغير أن ينشغلوا في الحصول على مقابل، ويقدموا من حياتهم القدوة لكل عشاق الوطن الذين لا يخشون في الحق لومة لائم.وما يضاعف من أحزاننا لفقدان هؤلاء، أن أمثالهم من أصحاب المبادئ يصعب تعويضهم، بينما اعتاد غيرهم على تغيير المبادئ بنفس السرعة التي يغيرون بها ملابسهم.عرفت أبو العز الحريري منذ سنوات طويلة كمناضل صلب ضد الفساد ومدافع عن حقوق الفقراء الذين ينتمي إليهم، ومقاتل ضد أي تفريط في حقوق الوطن.واقتربت منه أكثر عندما عملت مديرا لتحرير الأهالي «في بداية التسعينات وكان يرأس تحريرها المرحوم فيليه حلاب، وكان أبو العز يتبنى آراء أخرى تخالف العديد من قيادات الحزب، كان رأيه أن صحافة الأحزاب ليست بديلا عن العمل الميداني للأعضاء في الشارع، وأن الصحافة القوية نتاج أنشطة القواعد الحزبية على أرض الواقع.. وليس العكس.بينما كان لعدد كبير من القيادات رؤية مغايرة، واعتادوا أن يحاكموا صحيفة الحزب في معظم اللقاءات والاجتماعات الحزبية ويحملوها مسئولية عجزهم عن التواصل مع الجماهير، كما لو كان المطلوب من الأهالي أن تتحمل عنهم عبء العمل في الشارع وسط الناس بينما كان أبو العز الحريري يكسب كل يوم أنصارا جددا لارتباطه الدائم بأبناء دائرته، وبذلك استطاع أن يكسب ثقتهم.. وكانت نتيجة تلك الثقة تبدو واضحة في تأييده لهم عبر صناديق الانتخابات، مما كان يحقق له الفوز رغم ألاعيب السلطة التي كانت تتبع لحصاره.. والسعي لتزوير النتائج.دارت تلك الخواطر في ذهني، عندما ذهبت للإسكندرية لأودع الحريري إلى مثواه الأخير، أمضيت ساعات في سرادق العزاء أرقب آلاف المواطنين الذين توافدوا إلى السرادق.. بينما القارئ لا يستطيع أن يكمل بضع آيات من كتاب الله من أجل أن ينتج للذين قدموا العزاء الفرصة للخروج.. وللقادمين دخول السرادق.فسر أحد القيادات السابقة للحزب الوطني، هذا المشهد المهيب بأنه تصويت جديد على مصداقية الحريري، الذي كان خصما شريفا له وللحزب الذي ينتمي إليه، ولكنه كان صادقا في اختياراته المنحازه لبسطاء الناس.رفاق النضال من حزب التجمع كانوا حاضرين.. فقد جمعهم النضال وإن كانوا اختلفوا حول الأساليب التي تحقق الأهداف الوطنية.لم أعرف خالد السرجاني عن قرب، وإن كنت قرأت له معظم كتابات في الصحف التي عمل بها، ولمست مدى مصداقيته وحرصه على ألا يكتب إلا ما يقتنع به.. وألا يشارك مثل العديد من أبناء جيله في حرق النجور للحكام والمسئولين.. وكان حادا كالسيف في التعبير عن مواقفه حتى لو اختلف مع زملائه من أبناء المهنة، خاصة أنه كان يحرر أبوابا تقيم المواد التي تنشر في الصحف.. ما كان يعرضه لخلافات عديدة مع الزملاء.. ولكنه لم يعبأ بتلك الخلافات طالما أنه يحرص على الموضوعية في الحكم على من ينشر في الصحف.انحاز خالد للشباب ودافع عن حقهم في تسيير مرافق الدولة.. والتصدي لتقديم الحلول للمشاكل التي تحاصرنا ويعجز الشيوخ عن مواجهتها.تصدى خالد للفساد والوساطة التي تحول دون وصول أصحاب الكفاءات إلى المواقع التي يستحقونها، وتضمنت مقالاته الأخيرة انتقادات حادة لوزارة الثقافة التي اختارت أهل الثقة من الشيوخ رغم فشلهم في المناصب التي تولوها من قبل، ووجه انتقادات حادة لأعضاء المجلس الاعلى للصحافة.. وربما يرى البعض أنه قاس أكثر مما يجب وحملهم ما لا طاقة لهم به.. وتقبل الجميع نقده بصدر رحب لأنه صاحب قلم شريف يكتب ما يعتقد به، كما رأى البعض أن هجومه على الكاتب الكبير سيد ياسين كان أقسى مما يجب.. وعذره أنه كان يدافع عن الشباب من الذين شاركوا في ثورتي يناير ويونيو.«رحم الله الحريري.. والسرجاني»..