الحرب المقدسة على أمنا الغولة
أمام دوار كبير عنوانه الرحابة والسعة ورغد الحياة، جلس العمدة على أريكته متكئا ومن تحت قدميه كالعادة كان شيخ الخفراء ينتظر التعليمات.. غاب العمدة في تأمل أحوال القرية الصغيرة.. حالة من الصمت لا يقطعها إلا عواء الكلاب الضالة ونقيق ضفادع تسكن المصرف المجاور وخرير مياه ينساب من «جوزة « يدخنها العمدة بين الفينة والأخرى.
طال انتظار الخفراء وشيخهم حتى اعتدل العمدة في جلسته ليعلن عن أمر جلل وكل رجاله آذان صاغية.. قال العمدة «أمنا الغولة تهدد أمن القرية.. ولابد من مواجهة حاسمة.. مطاردة فعالة تمنع شرورها عن أهلنا البسطاء»، وأردف قائلا «اذهبوا ولا تعودوا دون وجهاء البلد وشيخها الحكيم».
لم تمض سوي سويعات قليلة حتى كان الجميع في حضرة العمدة الذي خطب في الناس قائلا «أما وإنكم وجهاء القرية وسادتها فإن العبء عليكم كبير.. أخرجوا رجالكم للحرب المحتملة ضد أمنا الغولة.. زاغت العيون وعلت الأنفاس وارتعشت الأبدان بينما كان العمدة مشغولا بشرح خطر أمنا الغولة التي تذبح الأطفال وترمل النساء وتهلك النسل والحرث ولا يكفيها قمح فدان كل وجبة.
نجح العمدة في شرح الأهداف الإستراتيجية للغولة اللعينة، ووقف شيخ الخفراء يشرح للعامة كيف سيطال خطرها القاصي والدانى، وكيف لاتفرق بين ساكن الأطراف أو المقيم بقلب القرية، واستفاض الرجل في شرح الأوضاع الأمنية.. ولم يكن من شيخ البلد إلا أن طلب توزيع الأدوار، فالعمدة بارك الله فيه- لديه من العتاد والسلاح ما يكفي لبدء المعركة فورا، وليس على الوجهاء إلا استلام الأسلحة ودفع الثمن مقدما ومن ثم توزيعها على الرجال وقود المعركة.
كان العمدة حاسما عندما اقترب منه أحد الخفراء وهمس في أذنه بما لايعلم القوم.. قال العمدة «إن أمنا الغولة نالت من حقلى في الحوض الغربى الآن أكلته كله، ولم تبق منه شيئا في حين أنها اكتفت ببقرتين من أبقار الحاج متولى».. هنا سقط متولى مغشيا عليه وانشغل القوم بإفاقته، توالت الصرخات من بيوت مبعثرة في القرية التي كانت آمنة، وانتشرت الحكايات المخيفة، المرعبة، المدهشة حول جرائم أمنا الغولة.
ترك الجميع أشغاله وتفرغوا لإعداد كمائن للغولة اللعينة.. حتى العمدة كان مشغولا بدوره في توفير السلاح والعتاد وإعداد الرجال.. انهارت محاصيل القرية ولم يتم تطهير الترعة.. ماتت السنابل وانحنت لوزات القطن وذبل جريد النخيل.. حوصرت النساء في البيوت.. توقفت المدارس.. سكن الخوف نفوس الأطفال.. حتى الإبل هجرها الصبر وباتت نحيلة، ضعيفة، هزيلة.. أما الأبقار فقد توالي سقوطها المدوى فلم يعد للقرية ثدى يدر لها الحليب.
القرية يحاصرها المقاتلون من كل مكان، غير أن الغولة تظهر دون أن يراها أحد.. فقط يرون أفعالها وجرائمها من قتل وتخريب وتدمير حتى تمكن العمدة عبر رجاله وعسسه من معرفة الحقيقة الكاملة.. أعلنها بشفافية على الجميع.. الغولة ليست وحدها ولن نقوى على مواجهتها، طلب من الناس أن يشاركوا أكثر وبفاعلية أقوى.. اشتروا السلاح حماية لأبنائكم.. سلحوا أطفالكم.. الناس أقبلت على السلاح وعبأت الأطفال ورحلت النساء ولم يتغير شيء، فالغولة لا تزال حرة طليقة والعمدة أقام مصنعا للسلاح، والأرض ما عادت تحمل في رحمها بذور القمح !!