رئيس التحرير
عصام كامل

وطنية مدفوعة الأجر!!


بينما كانت يداه تعبثان بمؤشر الراديو.. إذا بصوت يجلجل جوانب المكان "لقد تمكنت قواتنا المسلحة اليوم…"، وما أن انتهى البيان الأول حتى اصطحب بليغ حمدي بحركة لا إرادية عوده في يمناه، والفنانة العبقرية وردة في يسراه.. ودون أن تسأل مضت معه إلى حيث لا تدري.. ألقى بنفسه داخل التاكسي طالبا من السائق التوجه إلى ماسبيرو.


مضت الدقائق وكأنها الدهر عليه، وهو الفنان التلقائى الذي لم يحسب للوقت حسابا طوال حياته.. توقفت السيارة.. دخل مسرعا إلى المبني.. عرفهم بنفسه وهو من هو.. إنه الفنان الذي غنت له الدنيا كلها.. طلب منهم الدخول فورا.. اعتذروا له فالوقت غير مناسب، وتأمين المبنى يفرض عليهم مالا تفرضه الظروف العادية.

كان بليغ كقطعة نار تتلوى.. كل أنغام الدنيا حبيسة بين جوانحه، يريد أن يطلقها في وجه العدو صاعقة، وعلي قلوب مقاتلينا حماسة، تشعل وجد النصر لهيبا على الأعداء، هناك بعد خط بارليف.. زمجر بليغ كخيل تحبسه الظروف دون الانطلاق إلى سباق يهواه.. اتصل بالإذاعي الرائع وجدي الحكيم طالبا منه السماح بالوقوف فورا أمام الميكروفون.. تردد وجدى.. احتد بليغ.. هدد وتوعد بتقديم بلاغ في قسم الشرطة متهما وجدي بمنعه من القتال مع أبناء الوطن.. رضخ وجدى.

في الاستوديو عزف بليغ وغنت وردة "وأنا على الربابة بغنى".. غنى وغنت، وغني معهم المقاتلون في معامل التبرع بالدم وفي المجهود الحربى وعلي الجبهة "وأنا على الربابة بغنى"، وظلا يغنيان.. كان العرق يتصبب من كافة أنحاء جسده.. لم يكن يعزف لحنا بل كان يعبئ مدفعه ويلقي به حمما على رءوس الأعداء، وكانت وردة تصب من حنان صوتها حماسة تشعل القلوب حبا وعشقا في الوطن.

عاد بليغ إلى منزله.. ألقي بجسده المتعب على سرير متواضع مثلما كانت حياته كلها.. كان يردد اللحن ووردة مشفقة عليه.. عيناه زائغتان تحملقان في سقف الغرفة وكأنه يرى صور الرجال العابرين.. القافزين فوق أشواك الهزيمة صانعين نصرا مجيدا.. كان بليغ يريد أن يكون جنديا في ذات المعركة التي طالما انتظرناها وانتظرها كل عربى كسرته الهزيمة.

كان ذلك هو بليغ.. وكانت تلك وردة.. وكان هذا الشاعر عبد الرحيم منصور.. كان هؤلاء شعب مصر النابض القوى العزيز المبهر.

بعد مرور واحد وأربعين سنة، ومنذ أسبوع تحديدا عندما طلب الإعلامي الوطنى الجميل عبد الرحمن رشاد -رئيس الإذاعة- من الملحنين والمطربين والشعراء أن يشاركوا الشعب انتصاره بعد الدفقة الوطنية التي قفزت من قلب الأحزان وانطلاق البسطاء إلى شراء شهادات قناة السويس الجديدة.. طلب منهم التعبير والمشاركة في انتصار عز انتظاره.

شاعر كبير انفعل بالفكرة وأراد التعبير عما تجيش به القلوب الراغبة في الانتصار.. أعلن مشاركته بثلاث أغانٍ شريطة أن يحصل على ٢٥ ألف جنيه فقط.. يا للعجب.. وطنية مدفوعة الأجر.. مصرية تيك أواى.. حب بمقابل.. شعر بالقطعة.. مشاركة بالأبيج.. عشق بالجنيه المصري.

إن الفارق بين شعراء ٧٣ وشعراء ٢٠١٤ هو ذاته الفارق بين "مصر تتحدث عن نفسها" وبين "هاتي بوسة يا بت".. هو نفسه الفارق بين شعب لم تسجل خلال حربه في أكتوبر جريمة سرقة، وبين شعب ثار ضد الظلم والطغيان فسرقت جماعة الإرهاب كل دماء الشهداء وسرقت الثورة وحرقت أقسام الشرطة ودمرت السجون وأشعلت النيران في كل مكان.. البسطاء الذين لم يملكوا إلا حطام الدنيا دفعوا دماءهم ووفروا خبزهم وأصبحوا جنودا على الجبهة، وناس ٢٠١٤ وضعوا شرطا لعشق مصر.. خمسة وعشرين ألف جنيه مقابل ثلاث أغان.. اللهم ارحم بليغ وكل وردة وكل المنصورين وارحم بلادنا من العشق المشروط!!
الجريدة الرسمية