أية نهضة؟!
للنهضة فى كل معاجم العالم وموسوعاته تعريف محدد، قد يزداد سطراً أو ينقص سطراً تبعاً للسياقات الحضارية والاجتهادات، لكن المعنى فى الجوهر يبقى واحداً، وثمة قواسم مشتركة بين النهضات فى مختلف العصور، إنها تجاوز وانحياز للمستقبل، وتغليب للعقلانية، وأخيراً احتكام إلى المنطق .
لهذا فالنهضة ليست مجرد عنوان أو قبعة أو واجهة لعرض حزمة من المفاهيم التى يعاد إنتاجها بالتلفيق وليس بالتناغم والمواءمة .
وحين تكون النهضة اسماً مستعاراً لنكوص تاريخى وترسيخ للاتباعية، فهى مجرد حفلة تنكرية، قد يموء فيها النمر وتصهل القطة، وقد تغيب الشمس فى عز الظهيرة، فالمسألة قدر تعلقها بالأفكار ليست لعبة كلمات متقاطعة أو متصاهرة، لأن الواقع سرعان ما يقدم التكذيب الصريح لكل المزاعم التى تحاول أن تلوى عنق التاريخ وتبتكر منطقاً مضاداً يقدم النتائج على الأسباب . النهضة فى أوروبا لها أقانيمها المعروفة وبالتالى ثمنها من كل ما تعرض له التنويريون، وهى لم تكن حتمية تاريخية ولم تقدم على أطباق من ذهب أو حتى من نحاس، فهى ثمرة الوعى بالاستحقاق، وثورة للعقل على مضاداته سواء كانت من الخرافات أم من صناعة محترفى إعاقة النمو البشرى والعودة إلى الوراء .
والنهضة العربية فى القرن التاسع عشر كان لها رواد ومقومات وتحالف استراتيجى بين ظروف ذاتية عاشها العرب وظروف موضوعية حاصرتهم، وما إن أوشكت على الوثوب والصهيل حتى كبت، ولم تكن كبواتها التى تعاقبت بسبب هشاشة العظام أو العمى، بقدر ما كانت نتيجة محاولات لإجهاضها وتدجين أطروحات روادها، لهذا مات الكواكبى أبرز رموز تلك الكوكبة مسموماً، ولا أحد من ذويه أو ورثته حتى اليوم يعرف المكان الذى دفن فيه، فالعقاب لم يسلم منه حتى الموتى وهذا ما فعلته سلطات الاحتلال فى فلسطين عندما عبدت طريقاً له ألف بديل كى تهدم قبر عزالدين القسام وما يعنيه ذلك الرمز القومي، لأن الرجل جاء من الشام إلى غابات يعبد بالقرب من جنين كى يستشهد هناك، وكان جيفارا العربى الذى آمن بقومنة التحرير وتعريب القضية الفلسطينية كى لا تبقى فى نطاق تضاريسها الجغرافية فقط .
النهضة تبشير بالقادم وليست بكاء على الأطلال وهى تنوير وليست إظلاماً، ووعد بالانعتاق وليست وعيداً بالاعتقال، ولهذا فهى لا تقبل الأسماء المستعارة، أو الاستخدام التكتيكى لتحقيق المآرب قصيرة المدى .
والعرب المعاصرون رغم كل ما طرأ على ثقافتهم ولغتهم، لا يزالون قادرين على التفريق بين العصا والناى وبين الغسق والشفق .
وإذا كان التاريخ قد عرف جرائم اقترفت باسم الحرية وأخرى بذريعة الديمقراطية، فإن هذه التراجيديا تقبل التكرار وعلى نحو أشد إذا ارتكبت كل آفات التخلف وكل أنماط الترهيب باسم النهضات، وإذا استمرت هذه الحفلة التنكرية سياسياً وثقافياً فإن الفارق سوف يحذف بين النهضة والسبات .