أطفال الخوف
كادت تصمت إلى حد كبير ضوضاء القاهرة المزعجة عندما كنت أشق الطريق شقا، حيث يبدو صوت ماكينة السيارة عاليا ذا شهقة يثبت بها أنه حي، وهو الذي يذوب في بحر من الضجيج نهارا دون أن تشعر به.. الإشارة حمراء.. وقفت مثل الواقفين التزاما بقواعد منسية في بلادنا.. تأملت البنايات التي لا نراها نهارا بسبب مباريات القتال اليومية على المرور من أضيق زاوية أو الهروب من شوارع جانبية.
تبدو القاهرة عظيمة.. تتزين بعض مبانيها بقراميد وأخرى بتراسات نادرة.. ربما كانت تجاعيد الدخان الأسود هي أسوأ ما في المشهد.. من شارع جانبي لمحته يتحرك.. خيال ضعيف، ذابل، مهتز.. طفل يكاد يكمل عامه السادس أو الثامن أو العاشر، فأطفال الشوارع لا تدل هيئاتهم على أعمارهم الحقيقية.
اقترب مني.. طرق على زجاج السيارة.. لا تستطيع أن تصف لونه فهو أسمر أو أسود تنتشر في وجهه بقع بيضاء، ربما كانت أصل لونه، وما دون ذلك هو الكساء الذي غطى الأصل.. بعض أتربة مختلطة بقليل من عوادم السيارات.. تحركت يدي دون إرادة مني.. منحته ما أتصور أنه يكفيه لسد جوعته.. تغير لون الإشارة إلى الأخضر.. تحركت ببطء وأنا أراقبه في المرآة.. عبر الشارع بتثاقل غريب، بينما تتحرك السيارات بسرعات جنونية.. لا أظن أن أحدا كان يبالى بعبوره ولا هو كان يبالى.
ضاع من ناظرى، وظلت قسمات وجهه المتعب وكأنها لوحة منغصة على زجاج السيارة، وتساؤلات تحيطنى بما هو أعمق من القلق.. أين أبواه؟ هل ماتا؟ أين بقية أسرته؟ هل له أسرة؟.. ربما كان لقيطا، وربما كان أخا لعشرة مثله يحتلون شوارع الخطر.. ومن المحتمل أن يكون هاربا من قسوة تصور أن الشارع أحن منها.. كثيرون هم أطفال الشوارع في بلادنا.
عندما وصلت إلى الدار مررت سريعا أطمئن على الأولاد، وصورة الطفل ترهق ما تبقى من ذاكرة متعبة طوال عمل يوم شاق.. من الحمام خرجت.. ألقيت بجسدى على سرير منظم، ووسادة ناعمة غير أن لون الطفل الباهت وحركته المرهقة ويديه الممدودتين وشعره المتمرد قلبت كل الموازين.. بكل الطرق حاولت استدعاء النوم إلا أنه أبى زيارتي تلك الليلة.
في الصباح، مضيت إلى نفس الطريق وانتظرت في الممنوع.. لم أجده غير أني وجدت عشرات غيره من هؤلاء الذين نراهم يوميا حتى أصبحوا جزءا من صور مرصوصة معتادة في شوارع مهملة نتعامل معها يوميا دون قلق.. دون تفكير.. بلا مبالاة.. وكما هي عادتنا ليس لدينا إحصاء رسمي دقيق أو حتى نصف دقيق عن هؤلاء البشر الذين يسكنون الخوف، بلا أسر تحتويهم أو مؤسسات تحميهم.
الأرقام الشعبية مزعجة.. الهيئة العامة لحماية الطفل تقول إن شوارعنا تحمل في رحمها -غير الراحم- أكثر من مليوني طفل، في حين ترى اليونيسيف منذ سبع سنوات أن عددهم في مصر يتراوح ما بين٢٠٠ ألف إلى مليون فقط.. نعم استخدمت كلمة فقط للتعبير عن ضعف الرقم.
ربع هؤلاء المتعبين المطاردين تقل أعمارهم عن اثنتي عشرة سنة، ولك أن تتصور وأنت تمضي في الشوارع أن ابنك واحد من هؤلاء، ولك أن تتصور كيف ينام؟! وكيف يأكل؟! وكيف يشرب؟! وكيف يقضي حاجته؟! وكيف يغير ملابسه؟! وكيف يجد طريقة يملأ بها نفسه حبا وأمنا وأمانا؟! كيف يصير مواطنا لا عدوا؟! كيف يصبح رجلا لا وحشا.. ولك أيضا أن تتصور أن ١٥% من هؤلاء فتيات ينهشهن الشارع كل ليلة، ولك أن تتصور أن مصر وطن لديانتين عظيمتين ترفضان شكلا وموضوعا هذا النموذج اللاإنساني.
صحيح عدد هؤلاء في العالم يزيد على ١٠٠ مليون يتركز معظمهم في أمريكا الوسطى، التي تحتفظ في شوارعها بأربعين مليونا، في حين تحتفظ آسيا بثلاثين مليونا، وعشرة ملايين في أفريقيا ونحو ٢٥ موزعون على بقية قارات العالم.. هذه الأرقام تؤكد أن القاهرة لا تزال رائدة حتى في همومها !!
نتحدث عن مشروعات قومية، وعن آمال تولد اليوم وطموحات قد تطرح غدا، وأحلام تزرع في نفوس الجميع إلا هؤلاء.. البعض طرح من قبل احتواءهم في المؤسسسة العسكرية وهو الطرح الذي نراه يغفل دور المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية والدور الاجتماعي لرأس المال الوطنى.
والآن، وفي كل يوم أبحث عنهم ذهابا وإيابا، والحقيقة أنك لا تعاني في البحث عنهم، فهم طوابير في إشارات المرور وعلى الأرصفة.. تستطيع ليلا أن تراهم يتقوقعون في أحضان الجدران المصمتة، يعانقون المجهول، والمجتمع يزرع في قلوبهم كل كراهية بغيضة لا تخلف إلا وحوشا لا إنسانية فيهم!!