مؤمنون.. "يموتوا في الشاي" !
شيوع الفكر السلفى في الشارع المصرى بداية من أوائل سبعينيات القرن الماضى لم يفد المصريين، فالذي حدث هو أننا أتقنا إغلاق الشوارع بالحصير الأخضر، وتكدست الميادين بمصلي التراويح، بينما تكدست المحاكم في الوقت نفسه بدعاوى ومنازعات أكل الحقوق وأموال اليتامى والجور على الأرامل والمطلقات.
من لم تنهه صلاته فلا صلاة له، ولكن المصريون يصلون ويصومون.. ثم يأكلون الحقوق، ويقذفون المحصنات.. أيضًا.. ازدواجية معروفة.. مكررة ملحوظة.. وفى روايات نجيب محفوظ كان السيد أحمد عبد الجواد ملكًا للهلس والليل والرقص مع العوالم مع أصدقائه، بينما انزعج من رغبة أحدهم دخول منزله لطلب واحدة من بناته بالاسم.. للزواج.. استغرب السيد أحمد أين شاهد العريس ابنته، وهل فتحت شباك البيت فظهرت للناس في الشارع ؟!
ارتفعت نسبة الحجاب في الشارع 50% على الأقل مقارنة بما قبل 30 عاما، لكن لم تنخفض نسبة التقاضى في الحقوق أمام المحاكم، ولا تناسب رقم نزاعات الأحوال الشخصية في زنانيرى بالانخفاض، مقارنة بما بدا تدين الشارع.
لماذا التناقض ؟
لأننا نميل – عادة - إلى الطقس أكثر من المضمون.. الاحتفال بالفظ أكثر من المعنى عادة مصرية.. ففى حلقات الذكر مثلا، غالبا تتصاعد الأصوات بالتراتيل حبًا في النبى، وجمال النبى، وكمال النبى.. بينما يندر قراءة القرآن في خيم المتصوفة.. ولا تسمعهم يتجاذبون أطراف الحديث في تفسيرات آياته !
ملكنا سمات الدين، لكننا لم نملك الدين.. فلو كانت زيادة نسبة المحجبات، وحرص الشباب على تراويح الشهر الكريم، مؤشرًا على زيادة النزعة الدينية في الشارع، فإن وجه العملة الآخر كان يجب أن يقابله استقرار اجتماعي من نوع ما، فتنحسر نزاعات الجيرة، وتختفى مشاحنات الطريق، وتتداول حقوق العشرة، فتصبح الأموال والأعراض والأنفس مصونة بإلزام المجتمع المتدين.. ليس جبرًا بقوة القضاء.
لكن هذا لم يحدث، لذلك زادت أعداد المتهجدين في العشرة الأواخر، بينما زادت في نفس الوقت جرائم القتل والسرقة وقطع الطريق، وتضخمت صفحات الحوادث بقصص زنى المحارم، وتفاصيل كثيرة اعتداء الأبناء على الآباء.. وقتل بعضنا بعضًا داخل المساجد.. خلال صلاة الجماعة !
قبل وفاته، همس لى عالم الاجتماع الفذ الدكتور أحمد المجدوب أن خبرة 70 عامًا أتاحت له استخلاص نتيجة مؤكدة: "المصريين عندهم برد".. إصابتهم بأعراض الإنفلونزا، تكسير في الجسم.. احمرار في العين، اضطراب في الرؤية.. واضطراب في السلوك، وفى محتوى التفكير.. أيضًا.
للشعوب إنفلونزا مثل إنفلونزا النبى آدم.. وللأزمات الاجتماعية أعراضها.. أعراض إنفلونزا المصريين ظهرت في وقوف الموظف دقائق بين يدى الله في صلاة قصيرة، قبل عودته لمواربة درج المكتب للإكراميات، والرشاوى.
المجتمع الوحيد الذي أضاف أسماءً حركية للرشوة، فسميناها إكرامية.. وسميناها "تفتيح مخ".. قلنا عليها مرة "مفهومية"، ومرة "مية".. من يجرى الماء جريانا، قبل أن نسميها "شاى".
الوحيدون الذين سموا الرشوة "شاى" كنا نحن.. لذلك عادة ما يتلذذ موظفو الحكومة "المؤمنون" باحتساء الشاى بعد كل صلاة.
غريبة قصة مجتمع مؤمن.. بيموت في الشاى !!