الحرام !
الغوص في أعماق أعماق التربة الشعبية المصرية كان من نصيب نجيب محفوظ بلا منافس تقريبا.. وكانت الرومانسية من نصيب يوسف السباعي..وفي حين تخصص إحسان عبد القدوس مبكرا فيما يمكن أن نطلق عليه الأدب " النفس جنسي" وله متخصصوه في الطب الآن.. إلا أن يوسف إدريس ظل ملكا للرمز وربما بلا منافس أيضا.. فضلا عن تربعه على عرش التفاصيل ووصفها وصياغتها بشكل لم يسبق له ولم يلحق به مثيل.. وفي حين يظل محفوظ سيد الرواية إلا أن يوسف إدريس سيد القصة العربية بلا جدال..
وفي فيلم "الحرام" المأخوذ عن قصته..وأخرجه بركات في ستينيات القرن الماضي..وتألقت فيه الرائعة فاتن حمامة سيدة الشاشات العربية ومعها عبد الله غيث وآخرون..وإن كنا لا نعرف مدي التزام الفيلم بالقصة الحقيقية إلا أن ما شاهدناه أن الفلاحين وطوال مشاهد الفيلم ظلوا على انحناءاتهم وركوعهم..لم ترتفع رأسهم أبدا إلا في لحظات العقاب..
المدهش..وكعادة الكثيرين في بلادنا العربية في الاهتمام بالشكل على حساب المضمون وتغليب المظهر على الجوهر..فقد اعتدي أحد رجال أهل النفوذ والسلطة والقوة في القرية على الفلاحة الفقيرة واغتصب شرفها عنوة وبغير رضاها..فصار هم الذليلة الفقيرة همين..الفقر والعار..وبينما الفقر هم الجميع..لا استثناء منه في الفيلم إلا أصحاب الأرض والثروة والكرباج..وبينما الفلاحة الفقيرة مجني عليها..مظلومة..معتدي على عرضها الذي هو من المفترض شرف الجميع..وفي حين الاستعباد سيد الموقف..
وفي حين الإذلال سيد الموقف..وفي حين المرض سيد الموقف..وفي حين الجهل سيد الموقف..وفي حين الجوع سيد الموقف..وفي حين البؤس سيد الموقف..وفي حين الهامات على الأرض والرءوس إلى الأسفل والعيون منكسرة..وفي حين سياط الجلادين يلهب ظهور الكبار والصغار ولا يرحم ولا يستثني منهم أحدا.. يترك الجميع كل ذلك..كل ذلك..وينصب اهتمامهم سواء من أهل القرية في الفيلم أو من المشاهدين على السواء أن الحرام المقصود هو "الحمل سفاحا" !!..بينما الحرام الذي يقصده أدريس هو المأساة الكبري التي نقلنا صورا منها ويعيش فيها الجميع!!!
هل هناك حرام أكثر من كل هذا الحرام ؟!
أنها آفة العقلية العربية بكل أسي وأسف !!!!