رحلة البحث عن كبد
الطريق إلى المنصورة محفوف بالمخاطر، فالسبيل إليها لا يتم إلا عبر طريقين أحدهما الزراعي -وما أدراك ما الزراعي-، والثاني أن تسافر إليها عبر بورسعيد، قاطعا مسافة لا تقل عن خمسمائة كيلومتر.. أعمال الرصف وإنشاء الكباري والمطبات الجماهيرية على الزراعى تجعلك تعيش مغامرة أقرب إلى إلقاء نفسك البشرية في التهلكة وهو أمر محرم شرعا، وبذلك يعد الطريق الحرام خاصة لو أنك ابتليت بالمرور على الدائرى ومفاجآته المذهلة عابرا إلى الطريق الزراعي.
والوصول إلى المنصورة غاية المراد من رب العباد، فأنت ستدخل إلى مدينة تاريخية عبث بها القدر البشري ورسم في شوارعها كل صنوف الفوضى والإهمال.. ليست هذه منصورة الراحل فخر الدين خالد التي كان يجوب شوارعها كل ليلة مرات ليطمئن على أهلها وعلى نظامها وعلى دقة ميادينها وليست منصورة المنصورة تاريخيا والتي خطت بجهاد أبنائها أروع القصص.
شيء وحيد يبقى وهو الإنسان المنصورى، والذي ستراه هناك ممسكا بفأسه، والشمس تسلط نيرانها رأسيا فوق ظهره وهو لا يكل ولا يمل.. تلك الصورة لا تضاهيها إلا صورة علماء ونجباء الطب في مستشفياتها والذين لايزالون على عهدهم قائمين.
صعدت إلى الطابق السابع بوحدة الجهاز الهضمي في زيارة خاطفة إلى مواطن مصرى معجون بطين المنصورة.. سبكت بشرته بلون السمار المصرى الأصيل.. يجلس خلف شاشة الكمبيوتر يتابع آخر ما نشرته المجلات العلمية في جراحات زرع الكبد، ومن حوله تلاميذه ينصتون إلى المعلم باهتمام الشغوف إلى عالم المعرفة.
ولا يزال الأستاذ الدكتور محمود محمد عبد الوهاب يطل من خلف نظارته يصدر التعليمات إلى فريقه المعاون ويقلب دفاتر بسطاء ينهشهم مرض الكبد العضال بلا هوادة.. ولعنة المرض يقابلها قصص إنسانية مذهلة.. أطباء لا ينامون وفرق تمريض تنشر الرحمة في ربوع المركز العالمى بالمعنى الدقيق للتوصيف ورجال طيبون يبحثون عن منافذ يساعدون بها المرضى.
بالتبرعات الإنسانية ترتفع سقالات الخرسانة خلف المبنى، الذي نقرأ فيه قصص النجاح المبهر لتبنى بناء يبقي للإنسانية.. مبني عظيم يتبرع ببنائه رجل أعمال لا يعرفه أحد.. تكلفة المبنى قرابة الملايين الثلاثين.. وحدة طبية للأشعة، آخر ما وصل إليه العلم حملها رجل أعمال آخر، وقدمها لأبطال زراعة الكبد بالمنصورة الذين حققوا رقما عالميا.
وبعيدا عن طنطنة الساسة والسياسيين، تستطيع أن تعرف أن في مصر رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. شغلوا أنفسهم بأوجاع الناس دون البحث عن صوت انتخابى، أو لافتة يحملونها في مظاهرة احتجاج، أو تجمع استقر على العمل بليل.. هنا لا يحرقون أعمدة الضغط العالى، ولا يزرعون القنابل في الشوارع والحارات.. هنا لا يبثون الحقد والكراهية، ولا يقتلون رجال الشرطة والجيش.
هنا في المنصورة الإنسانية يزرعون أكبادا غير تلك التي أعياها المرض، منذ أن كان إنشاء مركز لزراعة الكبد حلما قبل عام ١٩٩٠ حتى أصبح حقيقة علمية تنير الدرب لليائسين.. جراحتان أسبوعيا بنسبة نجاح تقارب النسبة العالمية ٨٧٪ وأكثر من ٣٢٩ جراحة تمت بنجاح، يتابع المريض والمتبرع يومين بالمركز أسبوعيا وفق نظام طبي دقيق.. أكثر من ٦٠ مريضا تم تجهيزهم وينتظرون في قائمة الانتظار، ١٥٪ من المرضى يموتون أثناء تجهيزهم للعمليات بسبب تأخر حالاتهم أو بسبب الانتظار.
الجراحة هنا تتكلف ٢٠٠ ألف جنيه شاملة المتابعة مدي الحياة تدفع الدولة ٥٠ ألفا وجمعية أصدقاء مرضى الكبد ٢٠ ألفا ورجل الأعمال المصرى نجيب ساويرس ٧٥ ألفا و٣٠٪ من المرضى لا يدفعون مليما واحدا أما الباقي فإنهم يساهمون بقدر استطاعتهم.
الدكتور محمود محمد عبد الوهاب يروى قصصا إنسانية تشيب لها الرءوس.. ذات مرة سمع صرخة أم تقول "هو الفقير مالوش ضهر في البلد دي يا ناس" كانت الأم تحمل طفلا في حضنها تخفيه من لحظات موت يعانيها.. اقترب منها الدكتور وهمس في أذنها" معاكي خمسة جنيهات ثمن العملية" تهلل وجه المرأة وأخرجت عشرة جنيهات وحجزت كشفا بخمسة وتبرعت بالخمسة الأخرى.. تم تجهيز الطفل وأجرى الجراحة بنجاح وقد أصبح شابا يافعا الآن.
يقول الدكتور عبد الوهاب "نتصل برجال أعمال.. بالتجار.. بمن لديهم القدرة على المشاركة.. يلبون احتياجات الناس غير أن المكان أصبح أضيق من احتمال الأعداد التي ترد إلينا.. نحلم ببناء عظيم يستوعب هذه الأعداد.. لدينا ٩٠٠ متر مربع نأمل في تحويلها إلى مستشفى يليق ببسطاء مصر الذين ينهشهم المرض ونحن لم نحلم بشيء إلا وقد وضع لنا الله الرحمة في قلوب من يعشقون العمل من أجل هذا الوطن ومن أجل الإنسانية.. يختم بقوله "إن شاء الله سنبنيه".
جولة في المركز تجعل خطر الطريق تسلية وتدفع المرء إلى الإيمان العميق أن مصر بخير وأن الأيدي التي تبنى إنما تمارس الاحتجاج بالعلم في مواجهة المرض.. يرفعون لافتة وحيدة لا ترى فيها إلا اسم مصر وحولها قلوب خفاقة.. قلوب لا تزرع الشوك.. قلوب تزرع الأمل والحب والإخلاص.