قضية التراث
ما هذه السخافات الفكرية التي يعيش في ظلها بعضهم أو أكثرهم، بقصد أو غير قصد يخلط بين الدين المقدس المطلق وبين فهم الناس لهذا الدين، فإذا بالفهم البشري يتحول إلى دين مطلق مقدس هو الآخر، أرجوكم يا أيها العلماء، يا أهل الأزهر، ليس شيئا عصيا على التفكير، أو مخالفا للدين أن نقول إن هناك فارقًا بين الإسلام وتراث المسلمين، الإسلام مقدس بقرآنه وسنته الصحيحة لا شك في ذلك، ولكن التراث هو ذلك الذي وصلت إليه عقول بعض المسلمين الأوائل في فهمها للقرآن والسنة النبوية سواء كانت عملية أو قولية، فإذا انحرف فهم بعض الأوائل لهذه النصوص، أو فهموها وفق ثقافاتهم وخبراتهم وزمنهم وواقعهم الذي يعيشون فيه، فليس معنى هذا أن باقي المسلمين على مدى العصور مجبرون على أن ينتظموا في نفس هذا الفهم، وإلا لكان معنى هذا أن الله لم يخلق إلا عقلا واحدا ثم استنسخ منه نسخا بقدر عدد البشر إلى أن تقوم الساعة!
ولذلك فإن التراث قد يلقى تقديرا من المسلمين ومن غير المسلمين بحسب أنه جهد بشري إبداعي، ولكنه لا ينبغي أبدًا أن يلقى تقديسًا أو تنزيها، هو مجرد صورة من صور ثقافات الأزمنة التي أنتجت هذا التراث، به نستطيع أن نعرف طريقة تفكير المسلمين القدامى وطرق استدلالاتهم، ومدى تأثير ثقافات الحضارات الأخرى فيهم، وكيف نظروا بثقافاتهم هذه للقرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهل أثرت فيهم ثقافة العرب وهم يكتبون سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟، وهذه أمور يبحثها الباحثون في أروقة العلم لا على المنابر.
وقد نفهم من التراث أسباب الخلاف المؤلم الذي شب بين صحابة رسول الله حول الحكم عندما انقسموا بين سيدنا علي وسيدنا معاوية، وكيف أن صحابيين بقدرهما يقتتلان بجيوشهما، فنفهم من هذا أنهم بشر يرد عليهم ما يرد على باقي البشر!
وقد يذهب بعضنا وهو يدرس هذا التراث إلى أن هذا الخلاف كان دينيا، أو دينيا من ناحية ودنيويا من ناحية أخرى، وقد يذهب آخر إلى أن هذا الخلاف كان في حقيقته صراعًا على السلطة بين بني أمية الذين كانوا ملوكًا على قريش وأهم أفخاذها، وبين بني هاشم جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد سيدنا علي بن أبي طالب، ومن بني أمية قامت الدولة الأموية، ومن بني هاشم قامت الدولة العباسية، وإذ نقرأ هذا التراث رغم غرابة بعضه وشذوذه فإننا لا يمكن أن نحمل الدين عليه ونقول للناس: إن الإسلام يسمح بكذا أو كذا، لأن ما ورد فيه هو ترجمة لأفكار ناس، وسلوك ناس، وأخلاق ناس، وتاريخ ناس، فالدين لا يُحمل على الناس، ولكن الناس يُحملون على الدين.