الحرب المقدسة على الفساد
نعم هي حرب مقدسة، أعلنها رئيس الجمهورية منذ عدة أيام حينما أعلن صراحة في احتفالية الرقابة الإدارية أنه لا مكان لفاسد في مصر، فمما لا شك فيه أن مكافحة الفساد من أخطر التحديات التي تواجه مصر، إذ يجب أن يكون معلوما أنه بدون مكافحة حقيقية وجادة وفعالة للفساد لن تصل ثمار التنمية للشعب المصري، و لن تتحقق العدالة الاجتماعية، الفساد يمثل تحديًا خطيرًا في وجه التنمية، فهو على الصعيد السياسي يقوض الديمقراطية، كما يؤدي إلى تقويض التنمية الاقتصادية.
حقا جرائم الفساد الإداري ليست وليدة اليوم وليست مرتبطة بزمان أو مكان معينين، فهى سلوك إجرامى موجود في كل زمان ومكان، فقد عثر فريق الآثار الهولندي عام 1997 في موقع (داكا) في سوريا على ألواح لكتابات مسمارية تبين موقعا على ما يبدو لجهة رقابية يكشف عن قضايا خاصة بالفساد الإداري وقبول الرشاوي من قبل الموظفين العاملين في البلاط الملكي الأشوري قبل آلاف السنين، كما كشف لنا التاريخ عن اكتشاف لوح عن الحضارة الهندية (نحو 300 عام ق.م) كتب عليه العبارة الآتية:
يستحيل على المرء أن لا يذوق عسلا أو سمنا امتد إليه لسانه، وعليه فإنه يستحيل أيضا على من يدير أموال الحكومة إلا يذوق من ثروة الملك ولو نزرا قليلا، وعلى ما يبدو فإن محرر هذه العبارات كان من المفسدين، وكان يريد أن يبرر فعلته ويرسى مبدأ لزملائه من المفسدين، لكن ليس هذا مبررا لاستمرار الفساد، أو للقبول به، أو التعايش معه كما أراد نظام مبارك، إنما تجب مواجهته والقضاء عليه، اليوم قبل الغد..
الفساد ببساطة هو سوء استخدام السلطة العامة من أجل الحصول على مكسب خاص، وهو ما يتحقق باستغلال الموظف العام لموقع عمله وصلاحياته للحصول على كسب غير مشروع أو منافع شخصية سواء لنفسه أو للغير، يتعذر تحقيقها بطريقة مشروعة، مما يضر بالمال العام، وبالمصلحة العامة، لتحقيق مصالح شخصية.
و من أهم أسباب الفساد ضعف سلطة القانون، وهو ما ينجم مباشرة عن ضعف الأجهزة والهيئات المنوط بها إنفاذ القانون وتطبيقه، ولذلك فإن مكافحة الفساد لا تتحقق بمجرد توافر النية فلابد من وجود إجراءات وضوابط وآليات لتحقيق ذلك، ولقد سعى الدستور الجديد إلى وضع إطار جيد لتحقيق ذلك، إذ حفلت نصوصه لأول مرة بعدد من النصوص الدستورية التي تساهم في وضع إطار دستورى لقوانين وأجهزة لمكافحة الفساد، إذ نص على أن تتمتع الأجهزة الرقابية المنصوص عليها في الدستور بالشخصية الاعتبارية العامة، والحياد، والاستقلال الفنى والإدارى والمالى.
ونص الدستور على أن تبلغ الأجهزة الرقابية سلطات التحقيق المختصة سواء أكانت النيابة العامة أو النيابة الإدارية أو جهاز الكسب غير المشروع بما تكتشفه من دلائل على ارتكاب مخالفات أو جرائم، وذلك دون أي قيد على حرية الأجهزة الرقابية في الإبلاغ، ومن ثم سقطت كافة القيود التي وردت في العديد من قوانين الأجهزة الرقابية التي كانت تلزمها بوجوب أخذ إذن جهة معينة أو مسئول ما قبل إبلاغ النيابة.
كما أوجب الدستور أن تقدم الأجهزة الرقابية تقاريرها إلى كل من رئيس الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الشورى، خلال ثلاثين يومًا من تاريخ صدورها، ولعل في تعدد الجهات التي يتم إبلاغها بالتقارير الرقابية ما يكفل عدم التستر على ما ورد بها، وضمان اتخاذ الإجراءات الجادة حيال الجرائم التي كشفت عنها، ولإنهاء ظاهرة الثلاجة التي ابتدعها نظام مبارك، وذلك بأن تخزن التقارير الرقابية في ثلاجة البرلمان، وتتأخر مناقشة التقارير لسنوات طويلة حتى تسقط الجرائم، وذلك بقصد تمكين مرتكبيها من الإفلات من العدالة، ولذلك أوجب الدستور لأول مرة مدة زمنية معينة يجب على مجلس النواب أن ينظر خلالها هذه التقارير، ويتخذ الإجراء المناسب حيالها، وهي مدة لا تجاوز ستة أشهر من تاريخ ورودها إليه.
و لتحقيق الشفافية التامة وحرية تداول المعلومات وإيمانا بأهمية دور وسائل الإعلام في كشف الفساد والقضاء عليه، أوجب الدستور أن تنشر هذه التقارير على الرأى العام، وذلك كله بالإضافة لإنشاء المفوضية الوطنية لمكافحة الفساد لتتولى العمل على محاربة الفساد، ومعالجة تضارب المصالح، ونشر قيم النزاهة والشفافية وتحديد معاييرها، ووضع الاستراتيجية الوطنية الخاصة بذلك كله، وضمان تنفيذها بالتنسيق مع الهيئات المستقلة الأخرى، والإشراف على الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد التي يحددها القانون.
لكن الإطار الدستورى الجديد لمكافحة الفساد لا يكفى بذاته للقول بإن المكافحة الحقيقية قد تحققت، فالأمر لا ينتهى بمجرد صدور الدستور رغم أنه يجب أن يكون كذلك، لأن الشيطان عادة يكمن في التفاصيل، لذلك يجب أن يراعى في تعديل القوانين المنظمة لعمل الهيئات الرقابية والقضائية أن تكون التعديلات بما يتفق وأحكام الدستور، وأن تنقح من كل القيود والعوائق التي كانت تعوق هذه الهيئات في الماضى عن أداء عملها الرقابى والقضائى في حرية تامة واستقلال، وأن تجرى التعديلات القانونية اللازمة في أسرع وقت ممكن، دون حاجة إلى انتظار البرلمان، وعلى رأس هذه التعديلات قانون النيابة الإدارية الذي يجب أن يعدل اليوم قبل الغد، إذ أن تحقيق الانضباط الوظيفى مرهون بتفعيل دور النيابة الإدارية.