الإعلام مقابل السياسة
علمنا الرائد والأستاذ مصطفى أمين، رحمه الله، كيف تصبح الصحافة سلطة رابعة. وكان هو المؤمن والمطلق لهذا الوصف، وتحدث في زيارة لنا في نهاية حياته الحافلة، عن كيف تكتسب الصحافة هذه القوة. وأشار إلى أن الشرط الأول لأن تكون سلطة، أن تحترم السلطات الأخرى التشريعية والتنفيذية والقضائية ولا تعتدي عليها، وأن أخطر ما يصيب المجتمع هو تداخل السلطات.
تذكرت هذا ونحن نرى الآن هذا التغلغل والتدخل من برامج من يعتبرون أنفسهم إعلاميين في التعدي وتجاوز السلطات الأخرى. فما أن أعطيت لهم الفرصة لمخاطبة الجماهير حتى ظنوا أنهم الوحيدون المخول لهم التحكم بالعقول. فمرة هو المخبر والنيابة في فضح الآخرين ونشر العورات. ومرة هم القادرون على تغيير الحكومات وإبقاء أو عزل الوزراء. ومرة هي المتحكمة في الخريطة السياسية للبلاد، من يدفع ومن يحاسب ومن هو الرجل وما هي الأعمال. ومرة هو إسماعيل ياسين في التهكم والتجريح ورفع الأحذية أو التغطي بالبطانية واستحضار عمته فتافيت السكر.
فتح هذا علينا الباب بأن يفقد الإعلامي سلطته الحقيقية، والتي لا يكتسبها إلا كونه فقط عيون وآذان المواطن يسمع لهم ويرى بهم. ورأينا بالمقابل رجال الأعمال الذين تحولوا إلى مخاطبين للرأي العام. وفتحوا المحطات التليفزيونية لرأيهم أو لمصالحهم أو لجذب مزيد من الإعلانات، وأصبحوا هم الرواة والمستمعون.
وفتح الباب لرجال الأمن أن يكونوا هم المعدين للبرامج والمسربين للمكالمات والمطلقين للإشاعات. وسطع رجال القضاء أمام وهج الكاميرات يصدرون الأحكام التليفزيونية قبل النطق بها في ساحات المحاكم. ورأينا السياسيين يقولون إن المنابر الإعلامية قادرة على زعزعة الاستقرار، على أن الأخطر هو هذه القنوات التي يتصدرها شيوخ الفتاوى ذوو العمامات، الداعون للأخذ بالإيمان دون العمل، وهو ما يتحول إلى شر يهلك المجتمع ويصل بنا إلى حد قطع الرءوس.
لقد شرفت بدعوة لاجتماع مع بعض قادة المجلس العسكري ومجموعة من الإعلاميين ومالكي الصحف والمحطات قبل استلام حكومة الجنزوري؛ وذلك للتحدث في الشأن الإعلامي، وكيف نسير به؟ وبعد ساعتين من بدء الحوار، لم تكن هناك كلمة واحدة عن الإعلام بعد أن حوله رجال الأعمال الحاضرون إلى مبارزة سياسية إستراتيجية، اضطرتني إلى المغادرة وأنا الجاهل بشئون السياسة الممارس فقط لدوري الإعلامي منذ انتصار أكتوبر 1973.
إن ما يصنع القوة والاحترام للإعلام هو التعبير عن الشخصية المصرية الحقيقية وشطب الفروق الاجتماعية أو الدينية بينهم وعدم التعدي على القوى الأخرى، وعدم استحضار الفرقة والغضب.