عودة مبارك بثورة شعبية!
في إطلالة تأخرت كثيرا.. جاء دفاع مبارك عن نفسه أمام محكمة القرن مكتوبا بعناية.. مؤثرا.. عاطفيا.. ملتويا.. إضافة إلى أن صوت الرجل العجوز منح دفاعه صفات الخطاب السياسي الذي أراد صاحبه أن يعود إلى منصة المتحدثين إلى الشعب، وتبين وبوضوح للجميع -وأنا لست منهم- أن مبارك بريء من كل نقيصة أُلصقت به، وبريء من كل تهمة وجهت إليه، وبراءته تمتد إلى أسرته البسيطة التي قدمت للوطن كل غال ونفيس.
وبعد انتهاء خطاب مبارك أمام المحكمة كانت ردود الفعل التي اقتنصتها قناة صدى البلد عبر الجماهير الشريفة ودون انتقاء، قد تجاوزت حدود التعبير عن تأثرها بما قاله الصوت الغائب عن الساحة منذ آخر خطاباته عام ٢٠١١م، ووصلت إلى حد يفوق التصور الساذج لأمثالى؛ لدرجة أننى لم استبعد بناء على التليفونات الواردة أو المستوردة للقناة ذاتها، أن تهب الجماهير معلنة إعادة تنصيب مبارك ملاكا، طاهرا.. نقيا.. حاكما ومتحكما كما كان.
وبعد عدة مكالمات واردة إلى القناة، بدأت أراقب الشوارع وأمضى بسيارتى بين الميادين؛ فالثورة قادمة لاريب فيها.. شباب يرفع لافتات بالروح بالدم نفديك يا مبارك.. فتيات يحملن صور الزعيم ويجبن الشوارع ويمضين بثقة مطالبات بعودة البطل.. بطل الحرب والسلام.. بطل الضربة الجوية التي لولاها ما انتصرنا، ولولاه ما أكملنا مشوار السلام، ولولاه لانهزم العرب أجمعين، ولولاه لما تحررت البلاد من كل غاصب.
وعلى الجانب الآخر، كانت قناة الجزيرة تتابع عن كثب وعبر مزيفيها- عفوا- مراسليها وقائع انتصار ثورة مبارك.. المحللون السياسيون يتحدثون من عدة عواصم عن الفكر الثورى لمبارك الحكيم، والشاشة مقسمة إلى عدة نوافذ تنقل الوقائع بدقة من المحافظات المختلفة.. اختفى نشطاء يناير الذين نصبوا باسم الثورة، وظهر نصابون جدد بوجوه قديمة، يتحدثون عن مصر مبارك، ومبارك مصر، وكلاهما جزء من الآخر، لدرجة أن هناك مطالبات بتحويلها إلى المملكة المباركية العربية.
أمريكا كعادتها تمسك العصا من المنتصف، تخشى الاعتراف بثوار مبارك، قبل أن تحصل منه على وعد بتسليم المفتاح كما كان، وكما فعل زميله محمد مرسي الذي سلم كل شيء حتى الملابس الداخلية لواشنطن، مقابل أن تبارك جماعته.. روسيا منشغلة بما يحدث على حدودها، وأوربا لاتزال ترى أن حكمة مبارك تفرض عليها الاعتراف بثورته، ودعم ثواره.. عواصم عربية تقليدية تدعم من تحت المنضدة حكم العجوز الرصين.
الثوار يتوجهون إلى السجون يطالبون بإعدام المرشد وعصابته، ومبارك يطل من جديد ببيان حكيم تحت عنوان « القانون ولاشيء غير القانون» ويأمر على الفور بمحاكمة عسكرية لقادة الجماعة، وتخليص مصر من شرورها.. القرار يلقى صدى في نفوس الجماهير المحتشدة.. ينجح مرشد الجماعة في تهريب خطاب متلفز إلى قواعد جماعته، يطالبهم بعدم الخروج على الحاكم الجديد القديم، ويعلن دعم الجماعة للثورة المباركة.
السلفيون يعتلون المنابر مطالبين بطاعة الحاكم، والجماعة الإسلامية تبث بيانا عبر شبكات التواصل الاجتماعي، تطالب فيه بالعفو وبدء صفحة جديدة.. صفوت الشريف يعلن عن استعداد الحزب الوطنى بقواعده المنتشرة في كل مكان لخوض المعركة الانتخابية في جميع الدوائر، كما يعلن تمسكه بحقيبة الإعلام.. التليفزيون الرسمى ينقل وقائع فرحة الجماهير بعودة الحق إلى أصحابه، ويبث حلقات عن دور مبارك في حرب اليمن، وبطولاته في النكسة، مرورا بانتصاره وحيدا على العدو الصهيونى في حرب أكتوبر المجيدة.
عبد الرحيم الغول يؤكد فوزه الساحق بدائرته في قنا، ويناشد أتباعه الصفح عن المسيئين من أذناب يناير، وعمرو حمزاوى يظهر بفضائية غربية معلنا تمسكه بمبادئ ثورة مبارك، وقد ظهر عن يمينه عدد ممن تصور البعض أنهم متورطون في أحداث يناير.. جمال مبارك يجمع أشلاء لجنة السياسات، ويعيد ترتيب الأوراق، ويصدر قرارا بفصل كل من تورط في المؤامرة.. أحد رجال الأعمال يرفض ذكر اسمه ويؤكد أن ثقته في التاريخ كانت وراء إيمانه بعودة الحق، ويطالب بتعديل دستورى يسمح للثورة الجديدة بالحكم إلى الأبد، ويعلن تبرعه بثلاثين مليون جنيه لدعم الثورة الجديدة.
الميادين تسهر حتى الصباح على أنغام «مصر اليوم في عيد» وقرار بمنع دخول الجسمى مصر، بعد تورطه في أغنية «بشرة خير».. حبيب العادلى من مكتبه يعلن أن قوات الشرطة مستعدة لحماية مكتسبات الشعب وثورته، ويؤكد أن الشرطة جزء من ثورة الجماهير، مشيرا إلى عودة قانون الطوارئ لمدة سنة قابلة للتجديد، والشعب يوقع وثيقة اعتذار بالدم لمبارك وأسرته، ويؤكد أن ما حدث في يناير مجرد تهور شعبى غير مقبول تكراره.
القبض على طنطاوى وعنان بتهمة التآمر مع قوى خارجية، وعزل الرئيس الشرعى للبلاد، وقوائم اعتقال لإعلاميين بتهمة تضليل الرأى العام، وإعلان الدوحة عدوا لمصر، مع حق مصر في استخدام القوة لتحرير الشعب القطرى من عصابة آل حمد، ودول خليجية تدعم الموقف المصري، وتعلن آل حمد غير مرغوب في وجودهم بالمنطقة.
القيادة الجديدة تعلن المضى قدما في برنامج الخصخصة، وتؤكد للعالم التزامها بتعهدات مصر الدولية، وزيارات عربية وأوربية لقصر الرئيس.. جون كيرى يشير من واشنطن إلى أن بلاده تعترف بإرادة الجماهير المصرية، ويؤكد أن واشنطن حليف استراتيجي لمبارك.. ارتفاع معدلات النمو في أول خمس ساعات من الثورة إلى ما كانت عليه قبل مؤامرة يناير، والبورصة تحقق أكبر مكاسب لها منذ أربع سنوات، ومحلب يعلن عن رغبة مبارك في بث دماء جديدة لحكومته، ويعكف على دراسة ملفات ٥٠ شخصية من الحزب الحاكم.
أما المعارضة المغرضة من الهاربين إلى الخارج؛ فإنها لاتزال ترى أن آفة القوم ليست في سيطرة العاطفة على عقولهم، وليست في الذاكرة السمكية، كما أنها ليست أيضا في سطوة روح القطيع، وإنما تتعدى كل ذلك إلى ما هو أبعد.. إلى سيطرة ثقافة المؤامرة على العقل المصري، وكأن المصريين الذين خرجوا في يناير إنما غشيتهم غفوة التآمر رغم كثرتهم، وكأن هذا الشعب الذي انتفض ضد الجمود والتخلف وسيطرة رأس المال المزيف على الحكم، وانتشار الجوع والفقر والمرض والجهل.. كأن هذا المنتفض لم يكن مصريا.
قال مبارك بملء فيه إنه حافظ على الوطن، وهذا غير صحيح باعترافه أن ما حدث في يناير كان مؤامرة.. إذا كان كذلك فلماذا استسلم لها وسلم البلاد لمتآمرين؟! وقال إنه حقق قفزة اقتصادية ولم يقل إنها كانت حكرا على أصدقائه ومريديه من رجال أعمال مزيفين، وقال إنه رفض الاستسلام لأمريكا وإسرائيل، وهذا غير صحيح، فالرجل متورط في تسليم مفاتيح القاهرة لواشنطن وغيرها.. ولم يتحدث عن سنوات الصمت الرهيب التي حكم فيها جمال البلاد، بمشاركة أمه، ولم يتحدث عن البقاء لست فترات، ولم يتحدث عن إفساد الحياة السياسية، ووأد التجربة الحزبية في مهدها لصالح الإخوان.
ولم يتحدث عن ملف الخروج من أفريقيا، بعد تعرضه لمحاولة اغتيال في أديس أبابا، ولم يتحدث عن إخراجه مصر من معادلة التوازن الإقليمى التي كانت أهم ركائزها السياسة، ولم يتحدث عن الفقراء الذين ازدادوا فقرا، ولم يتحدث عن الصحة التي غادرت مصر إلى حيث لا ندرى، ولم يعد بيننا إلا المرض العضال، والذل على أبواب مسالخ حكومية ومذابح قطاع خاص لعينة!!