رئيس التحرير
عصام كامل

عيون وآذان (مام جلال)


الرئيس جلال طالباني بين أعز السياسيين العرب على قلبي. استطاع أن يكون وطنياً كردياً وعربياً في آن، وكان رئيساً توافقياً. وبقي مع أصدقائه «مام جلال» فقد منعني بعد الرئاسة أن أخاطبه بغير اللقب الذي استعملته مع بدء معرفتي به قبل ثلاثة عقود أو نحوها.


قرأت أن مام جلال أصيب بجلطة، وأن حالته خطرة، وأرفض أن أتحدث عنه بصيغة الماضي، فأرجو له الشفاء وأراجع محطات في علاقتي معه التي لم تنقطع من أيام المعارضة والتشرد إلى أيام الحكم والقصر الرئاسي في بغداد.


كان الشيخ عيسى بن سلمان دعاني إلى زيارته في البحرين، وذكرني بالدعوة مرتين الصديق نبيل الحمر فتأخرت، وتوفي الشيخ عيسى، ولا أزال حتى اليوم نادماً على عدم رؤيته مرة أخيرة. وكان مام جلال يدعوني سنة بعد سنة إلى زيارة العراق، والنزول ضيفاً عليه في قصر الرئاسة خارج المنطقة الخضراء، بحراسة البيشمركة، وكنت أعتذر بأنني لن أذهب إطلاقاً إلى العراق والجنود الأميركيون فيه. والسنة الماضية على عشاء في نيويورك، على هامش دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، أجلسني إلى جانبه، ومعنا حوالى 70 ضيفاً من عراقيين وأميركيين وغيرهم، وقال لي أنه لم يبق عندي عذر وأن الأميركيين تركوا العراق، وهو يريدني أن أعود معه بطائرته الرسمية إلى بغداد. قلت له: مام جلال أرجوك، هناك خطاب فلسطين وأبو مازن ولا أستطيع الغياب.

مام جلال قبل عذري، وكنت أنوي مرافقته عائداً إلى بغداد هذه السنة، إلا أنه غاب بداعي المرض والآن أسمع أن حياته في خطر.

عرفت مام جلال معارضاً بين دمشق وعمان وعواصم غربية، وكان دائماً ذكياً ظريفاً، ومحللاً سياسياً بارعاً، ويوفر معلومات صحيحة. كانت لغته العربية سليمة راقية، فهو عضو مؤسس في نقابة المحامين العراقيين وفي نقابة الصحافيين العراقيين، وعندما أسس حزبه «الاتحاد الوطني الكردستاني» تبعه نصف الأكراد مع أن زعامتهم التقليدية معقود لواؤها للملا مصطفى البارزاني، والآن لأخينا مسعود البارزاني.
يضيق المجال فأكتفي بمحطات عن علاقتي معه.

زرته والزميل غسان شربل والزميل إبراهيم حميدي في مقره عند سد دوكان سنة 2002. وهو نزل علينا بثياب النوم (بيجاما) مرحباً لأنه لم يصدق أننا سنتجشم عناء السفر إليه هناك. وأقنعته والأخ برهم صالح بعد جهد بأن يرتدي سترة ليجري له إبراهيم مقابلة تلفزيونية، فارتدى سترة ونسي الحزام.

في لندن يوماً، تقابلنا بموجب موعد مسبق، بعد الجمعية العامة في نيويورك، وطلب مني أن أضمن له دعوة من الرئيس بشار الأسد لزيارة سورية. كان واضحاً فقال إن عنده تسعة مطالب وإذا ضمنت له أن يلبّي الرئيس السوري ثلاثة منها أو أربعة فسيقوم بالزيارة ولو اعترض رئيس الوزراء العراقي والأميركيون.

ذهبت إلى الرئيس السوري بالطلب، وتلقى مام جلال دعوة لزيارة سورية، وعندما سألته في الأمم المتحدة هل حقق منها ما يريد قال أنه حقق القليل إلا أنه أفضل من لا شيء.

كان، شفاه الله، يحب الأكل، ومرة طلبت منه أن يترك طاولة فطور في نيويورك بحجة أنني لا أسمعه، وأن ننتقل إلى صالون الجناح في فندق حل فيه. وهو قال لي أنه يعرف أن زوجته طلبت من أصدقائه أن يوقفوه عن الأكل.

كان ظريفاً لم يفارقه ظرفه في أحلك الأوقات، وقد رويت بعضاً من طرفه عن نفسه فأكتفي اليوم بزجل عراقي سمعته منه:
لا قصر لا حصران/ ولا عندنا بردي
فوق القهر والضيم/ ريّسنا كردي
اليوم لا أملك سوى أن أدعو ربنا أن يمنّ عليه بالشفاء.

نقلاً عن الحياة اللندنية

الجريدة الرسمية