عندما تصبح طفلة أكبر مكاسب الجيش
كان الجو حارًا.. صحراء تلهب إطارات السيارة.. جبال شاهقة تعانق السماء.. مدهونة بكل صنوف الألوان وكأن الشمس الحارقة كستها بلون الصمود ولون الحديد ولون النار.. الطريق من رأس سدر إلى شرم الشيخ معبد بقصص الهوى المصرى.. بين المسافة ورفيقتها كمين لرجال جيش أقوياء يقفون خلف أسلحتهم في مواجهة الضلال.. وبين المساحة والأخرى كمين لرجال شرطة أشداء يحرسون تراب الوطن.
وكان المشهد العفوي الذي أثار شجونى.. سيارة ملاكى يقوم أحد أبطالنا من رجال الجيش بتفتيشها وخلف الزجاج الخلفى طفلة في عمر الزهور ترتسم على وجهها ابتسامة رضا، وهي تشير للجندى بإصبعيها رافعة علامة النصر.. هذا المشهد يختصر سنوات من التاريخ المفعم بالحب الشعبي لجيش بلادي.. الناس كل الناس حتى تلك الطفلة الصغيرة، سعيدة بما يقوم به أبناؤنا في الصحاري حتى لو كان تفتيش سيارة والدها.
تذكرت على الفور عقب الحادث الأليم لاستشهاد أبنائنا في حادث رفح الأول، عندما قال لى ابنى إنه يريد أن يتطوع في الجيش.. قلت: ولكنك وحيد ولن يسمح لك وشرحت له الأمر فلم يكن منه سوى أن تحدث عن عدم دستورية قانون يحول دون التحاق أحد أبناء الوطن بالجيش حتى لو كان وحيدًا، فشرف حماية الوطن لايجب أن يحول دونه حائل.
نقلني ابني إلى مساحة أعمق في ذاكرة هذا الوطن العظيم بشعبه لا بموقعه كما يتصور البعض، عندما كنت طفلا صغيرًا وتدور الحكايات في قريتنا المنزوية هناك بعيدًا في ريف مصر، عن العار الذي لحق ببيت فلان، لأن ابنهم أثناء توقيع الكشف الطبي عليه تبين أنه «شُرُك» بضم الشين والراء، حيث كان يسير والد من لا تقبله «الجهادية» في ذلك الوقت، مطأطئ الرأس كسير النفس؛ لأن ابنه ليس ككل الرجال الذين نالوا شرف الالتحاق بالجيش المصري.
ولم يكن ذلك وحده هو ما تذكرته مع إشارة الطفلة البريئة لواحد من جنودنا الأبطال، بل امتد إلى أبعد من ذلك عندما تناقلت ذات القرية - ويبدو أن ذلك كان شأن جميع المصريين - حكاية أول شهيد عام ٦٧ وصل خبره لأهله عندما أطلقت أمه "زغرودة" لأن ابنها نال شرف الشهادة دفاعًا عن الوطن ثم توالت القصص عندما أفقنا من غفوة الهزيمة إلى معارك الاستنزاف المجيدة التي هضمت إعلاميًا وتاريخيًا.. هكذا تكررت الزغاريد في حواري قرانا.
وفى عام ١٩٨٨م، عندما عدت إلى منزلنا في أول إجازة لي بعد تجنيدى بالقوات المسلحة، لا أنسى «طلة» وجه أمى وهى تتأملني وكأنها ترانى لأول مرة، وعندما هممت لتغيير ملابسي طالبتنى بالبقاء بها بعض الوقت وكأني واحد من قادة الحرب الكبار أو كأنى جنرال عائد من ساحة القتال، وكنت كلما تحدثت عن صلابة القادة وقسوتهم في التدريب ترتسم على وجهها علامات الرضا حتى ظننت أنها تنعم بتعذيبي لولا إيمانى بما كانت تحمله لى من حب فقدت كل حب مثله بعد رحيلها.
ومع أن الزمان تغير.. والظرف تغير.. فإن الناس في بلادي لايتغيرون في كل ماهو مرتبط بهذا الجيش العظيم الذي يثبت يومًا بعد يوم، وقرنًا بعد قرن أنه لا يتغير.. عقيدته هي ذاتها.. بنيته الوطنية الخالدة هي نفسها.. جهاده كما هو والناس أيضا كما هم يفخرون بأبنائهم في الميدان، وفخورون بهم شهداء حق ضد كل باطل يريد أن ينال من صمودنا أو همتنا أو عزتنا.
إن ما فعلته الصغيرة بعفوية طفولتها، هو أكبر سلاح يواجه أعداء الأمة، وهو أكبر دعم يحصل عليه جيش وطنى في التاريخ
كله !!