وقاحةٌ إسرائيلية وسفاهةٌ أمريكية
وقاحةٌ إسرائيلية فجةٌ غريبة، ليس لها تفسير سوى أنهم أغبياء، يريدون أن يعيشوا في واقعٍ ماضي، وتاريخٍ سقيم، وجوارٍ ضعيفٍ مهزومٍ، وأن يحتكموا إلى مفاهيمهم القديمة، وأن يطبقوا سياساتهم التي اعتادوا عليها، وكأَنَّ الزمان قد جَمُد ولم يتغير، وأن معايير القوة ما زالت حكرًا عليهم، لا ينازعهم فيها أحد، ولا تنافسهم عليها أمة، وأن التفوق قد خلق لهم، وأن التميزَ علامةٌ لكيانهم، وأن عدوهم قد استناخ لهم وإلى الأبد.
فهم يريدون أن يقتلوا الفلسطينيين، وأن يدمروا بيوتهم ومساكنهم، وأن يرتكبوا في حقهم كل الموبقات والمحرمات، بينما لا يحق للفلسطيني أن يردع قاتله، ولا أن يصد المعتدي عليه، ولا أن يحاول قتله أو أسره، رغم أن قاتله يركب دبابةً ويقصف، ويجلس على مربض مدفع ويرمي، ويحمل رشاشه ويطلق رصاصه عشوائيًا يصيب به من يشاء، لكن لا يجوز في عرفهم للفلسطيني أن يقاوم المعتدين، ولا أن يصد غارات العدو، وإنما عليه أن ينتظر مقتله، وأن يقبل هدم بيته، وتشريد أهله، وغير ذلك يكون خروجٌ على المألوف، وشذوذٌ عن القاعدة والأصل، ومخالفة للقيم والقوانين، وخرق للأعراف والمواثيق.
كيف يستغرب العدو الإسرائيلي أن تقوم المقاومة الفلسطينية بأسر ضابطٍ عسكري، كان على أرض المعركة في الميدان، يصدر الأوامر، ويوجه الجنود، ويحدد مناطق القصف، والجهات المقصودة، ويوزع بسلاحه الموت والدمار والخراب على الفلسطينيين، ولا يبالي أين تقع قذائفه، وعلى من تسقط حممه.
هل كان العدو يريد من المقاومة أن تربت على ظهر الجندي أو الضابط، وأن تشيد به وبجهده، وأن تتقدم له بالشكر والعرفان أنه يقتل شعبنا، ويخرب بلداتنا، ويدمر بيوتنا.
أم أنه كان ينتظر منا أن نعيد من تاه من جنودهم إلى ثكناتهم ووحداتهم، وأن نحسن إليهم ولا نسيء معاملتهم، وألا نعيقهم أو نتأخر عليهم، أم أنه يريد منا أن نستنيخ لمن يقتلنا، وأن نصطف على الجدران، أو نستلقي على الأرض ليأتي جنديٌ منهم، ليطلق النار على رؤوسنا، ويردينا جميعًا على الأرض قتلى.
لا تتوقف الوقاحة عند العدو الصهيوني فقط، بل امتدت إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة بان كي مون، الذي حمل المقاومة الفلسطينية مسئولية خرق الهدنة، وأنها اعتدت على حياة جندي إسرائيلي، وأسرته من الميدان، بينما كان يلبس بزته العسكرية، ويحمل على كتفه بندقيته، وطالبها بسرعة إعادة الجندي الأسير، وتسليمه إلى قيادة جيش العدو، ليعود إلى وحدته من جديد، ليواصل القتل مرة أخرى، ويستأنف القصف الذي قطعه الأسر، وإلا فإن المقاومة تتحمل مسئولية مقتل المدنيين ونسف بيوتهم.
أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما فقد نسي آلاف الشهداء والجرحى الفلسطينيين، وتجاهل أن الجيش الإسرائيلي هو الذي استهدفهم بصواريخه وقذائفه، واعتبر أن المقاومة الفلسطينية هي المسئولة عن تدهور الأوضاع، وتراجع فرص وإمكانيات التوصل إلى تهدئة، قد تحمي المدنيين وتحقن الدماء، وتقود إلى هدنةٍ طويلةٍ الأمد، وطالب المقاومة إن كانت حريصة على مصالح شعبها، وتريد أن تتوصل إلى وقفِ إطلاق نارٍ دائمٍ، أن تفرج عن الجندي الأسير، وأن تطلق سراحه ليعود إلى أسرته وعائلته التي تنتظره، وإلا فإن الأوضاع ستسوء أكثر، وسيصعب مطالبة الحكومة الإسرائيلية بأن تهدأ.
غريبةٌ هي هذه الأفكار ومستنكرة، ولا يمكن فهمها إلا إذا سلمنا بأن العدو وحلفاءه مرضى، ومصابون بالعمى، ولا يحسنون التمييز، ويرون أنهم وحدهم الذين يستحقون الحياة، بينما لا مكان لغيرهم إن عارض إرادتهم، أو اختلف مع توجهاتهم، أو شكل خطرًا على حياتهم، أو حاول أن يكون قويًا ليحمي شعبه.
إنهم يريدون أن يمتلكوا وحدهم كل سلاحٍ فتاك، وأن يستخدموا كل إمكانياتهم وقدراتهم في تأديب وردع خصومهم، بينما لا يحق لخصومهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولا أن يمتلكوا سلاحًا لردعهم ومنعهم، أو ليخلقوا من خلاله توازنًا يصنع الأمن، ويحول دون الغدر والاعتداء.
هل يتوقعون من الشعب ومقاومته أن يسلم بمواقفهم، وأن ينزل عند إرادتهم، فيتنازل لهم عن سلاحه، ويفكك صواريخه، ويردم أنفاقه، ويسلم صُنَّاعَه وفنييه، ويبلغ عن الخبراء والعلماء، ويلغي عقيدة المقاومة وإرادة الصمود، ويقبل بأن يعيش طالبًا للأمان، وساعيًا للعيش والعمل، ينتظر الإحسان، ويعيش على المساعدات والمعونات، تفرحه الهبات، وترضيه الهدايا والحسنات، إكرامًا للعدو ليسعد، ونزولًا عند إرادته ليرضى.
هذا الشعب بات يدرك أنه لا يحميه من عدوه سوى سلاحه، ولا يقاتل نيابةً عنه سوى سواعد أبنائه، وأن العدو ينتظر ساعة ضعفه، ويتربص به في يوم غفلته واستراحته، ليعتدي عليه وينال منه، وأنه لا يجوز الصمت عليه، ولا الاطمئنان إليه، بل ينبغي مباغتته، والعمل على مفاجأته، وأن نأتيه من حيث لا يحتسب، ونضربه من حيث لا يتوقع، وأن نهاجمه بقوةٍ تخيفه، وبسلاحٍ يردعه، ومفاجأة تربكه، لئلا يقوى على الصد أو المقاومة، ولا المهاجمة والمبادرة.
هذه هي القاعدة الذهبية التي يجب أن يفهمها العدو، وأن يدركها الحليف، ليغير بها قناعاته السابقة، ومفاهيمه البالية، فلا ينتظر من الفلسطيني أبدًا أن يفرط في حياة شعبه، وأن يستهين بدماء أهله، وأن يسكت عمن يقصف وطنه، ويخرب بلاده، ولا يتوقع يومًا أن هذه المقاومة ستعيد إليه تائهًا، أو ستفرج عن جنديٍ قاتل، أو أنها ستسلم له من أسرت واعتقلت، إلا إذ دفع الثمن، وأدى الضريبة، ونزل عند شروط المقاومة، ولعله قد تعلم من ماضيه، وأخذ عبرةً من درس شاليط، فهذه مقاومة فلسطينيةٌ عزيزةٌ أبية، تختلف عمن خبرهم، ولا تتشابه مع من تعاون معهم، ولعله على يقين بأنه قد عرفهم، وخبر بأسهم، وتأكد من صدقهم، فما عليه إلا أن يخضع لهم، ويستجيب إلى مطالبهم، وينزل عند شروطهم..
moustafa.leddawi@gmail.com