محمد نجيب "الرئيس المنسي".. ولد في السودان لأب يعمل ضابطا في الجيش المصري.. تخرج في الكلية الحربية عام 1918 وشارك في حرب فلسطين.. وأزمة مارس أطاحت به من الحكم
يأبى التاريخ أن يطوي صفحات اللواء محمد نجيب "الرئيس المنسي" أو يزورها، ورغم كل المحاولات لتقليل دوره وتهميشه، إلا أن "نجيب" له دور كبير في تاريخ مصر لا يمكن لأحد أن ينساه أبدًا.
الحياة العسكرية والسياسية للواء نجيب، ليس هناك أفضل من الاطلاع عليها من نافذته هو وعلى لسانه شخصيًا، ليرسم من عالمه كيف سارت حياته، فحينما قرر البدء في كتابة مذكراته، "كنت رئيسًا لمصر"، التي شهد الجميع لها بالحيادية وخلوها من أي اتهامات لمن عزلوه، رأى أنها واجب لابد من أدائه قبل الرحيل، قائلا: "إن هذا الكتاب سيعيش أكثر مما عشت وسيقول أكثر مما قلت وسيثير عني جدلًا بعد رحيلي أكثر من الجدل الذي أثرته وأنا على قيد الحياة".
يقول نجيب في مذكراته: "وإذا كنت لا أعرف بالضبط تاريخ ميلادي فأنا أعرف جيدًا أنني ولدت في الخرطوم، وكذلك أمي، أما جدة أمي فهي مصرية الأصل من المحلة الكبرى، أما والدي، فهو الملازم أول يوسف نجيب، والذي بدأ حياته مزارعًا في كفر الزيات بمحافظة الغربية، ثم التحق بالمدرسة الحربية، وبعد تخرجه شارك في حملات استرجاع السودان 1898، وتزوج من سودانية وأنجب منها ابنه الأول "عباس"، ثم توفيت، فتزوج من السيدة "زهرة" وقد أنجب منها تسعة أفراد، ثلاثة أبناء من بينهم محمد نجيب، وأيضًا ستة بنات، وعندما بلغ محمد سن 13 توفي والده تاركًا وراءه أسرة مكونة من عشرة أفراد، فأحس بالمسئولية مبكرا، ولم يكن أمامه إلا الاجتهاد في كلية جوردون حتى يتخرج سريعًا".
وبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية بمديرية النيل الأزرق، وأنهى تعليمه بكلية جوردون، التحق بالكلية الحربية في مصر في أبريل عام 1917، وتخرج فيها في 23 يناير 1918، ثم سافر إلى السودان في 19 فبراير 1918، والتحق بذات الكتيبة المصرية التي كان يعمل بها والده ليبدأ حياته كضابط في الجيش المصري بالكتيبة 17 مشاة، ومع قيام ثورة 1919 أصر على المشاركة فيها رغم مخالفة ذلك لقواعد الجيش، فكان يسافر إلى القاهرة ويجلس على سلالم بيت الأمة حاملا علم مصر وبجواره مجموعة من الضباط الصغار، ثم انتقل إلى سلاح الفرسان في شندي، ومع إلغاء الكتيبة التي كان يخدم فيها، انتقل إلى فرقة العربة الغربية بالقاهرة.
وفي 28 أبريل 1923، انتقل نجيب إلى الحرس الملكي بالقاهرة، ثم انتقل إلى الفرقة الثامنة بالمعادي بسبب تأييده للمناضلين السودانيين، وحصل على شهادة البكالوريا عام 1923، والتحق بكلية الحقوق، ورقي إلى رتبة ملازم أول عام 1924، وكان يجيد اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والعبرية، ورغم مسئولياته المتشعبة كان شغوفا بالعلم.
"عندما تقع البقرة تكثر سكاكينها" وعندما وقع الملك فاروق من على عرش مصر، كثرت السكاكين التي هوت عليه، وأنا لا أريد أن أزيد في عدد تلك السكاكين- بحسب نجيب في مذكراته، متجاهلا الحديث عن الماضي، واكتفى بسرد بعض المقدمات عن ثورة 23 يوليو 1952، قائلًا: "بمرور الأيام أثبت فاروق أنه لم يكن قادرًا على المحافظة على اسمه، وراح يبيع الألقاب والمزايا الملكية وراح يشتري بثمنها الفساد الذي استشرى في كل مكان بمصر، وكان بعضنا بالطبع قد فسد من الرشاوي وغيرها، وفقد الإحساس بالأهداف الوطنية، ولكن الغالبية العظمى بقيت مخلصة تعرف ما يدور في بلدها وتسعى للتخلص منه ".
وتابع: لقد كان الهدف من النظام العسكري حماية الحكام من أعدائهم المحليين والأجانب، ولم يكن من السهل على الجيش أن يبتعد عن السياسة، لأنه لم يكن من السهل عليه أن يترك بلاده تهوى إلى قاع الفساد، وكان لابد أن يتدخل في السياسة ليكون حكومة تدافع عن المصالح والرغبات المشروعة للشعب، وهذا بالضبط ما حاولنا أن نفعله بقيام حركة الجيش في 23 يوليو 1952، أمسكنا بزمام السلطة لأننا لم نعد نتحمل المهانة التي كنا نعيشها مع الشعب المصري، وكانت نقطة التفجير هي انهزامنا في فلسطين، وأنا شخصيًا كانت نقطة تفجيري في 4 فبراير 1942، وعبرت عن غضبي من هذا الحادث الذي داس فيه الإنجليز كرامة الملك بالدبابات، بأن قدمت استقالتي من الجيش، لكن الملك لم يقبل الاستقالة وبقيت في الجيش منذ ذلك اليوم رغم إرادتي.
وتابع: لقد كان الهدف من النظام العسكري حماية الحكام من أعدائهم المحليين والأجانب، ولم يكن من السهل على الجيش أن يبتعد عن السياسة، لأنه لم يكن من السهل عليه أن يترك بلاده تهوى إلى قاع الفساد، وكان لابد أن يتدخل في السياسة ليكون حكومة تدافع عن المصالح والرغبات المشروعة للشعب، وهذا بالضبط ما حاولنا أن نفعله بقيام حركة الجيش في 23 يوليو 1952، أمسكنا بزمام السلطة لأننا لم نعد نتحمل المهانة التي كنا نعيشها مع الشعب المصري، وكانت نقطة التفجير هي انهزامنا في فلسطين، وأنا شخصيًا كانت نقطة تفجيري في 4 فبراير 1942، وعبرت عن غضبي من هذا الحادث الذي داس فيه الإنجليز كرامة الملك بالدبابات، بأن قدمت استقالتي من الجيش، لكن الملك لم يقبل الاستقالة وبقيت في الجيش منذ ذلك اليوم رغم إرادتي.
وقال نجيب عن تعيينه مديرًا لسلاح الحدود في عام 1949 الذي بدأ فيه العد التنازلي للثورة: "وحمدت الله أنني لم أنقل إلى قيادة الجيش لأن ذلك معناه أنني يجب أن أكون قريبًا من الملك رغما عن إرادتي، وكان الفساد قريبًا مني وكانت رائحته على مرمى أنفي.. كان الفساد في سلاح الحدود الذي كنت رئيسه.. وكنت أول من أطلق عبارة "الضباط الأحرار" على التنظيم الذي أسسه جمال عبد الناصر، وأنا الآن أعتذر عن هذه التسمية، لأنها لم تكن اسمًا على مسمى.. فهؤلاء لم يكونوا أحرارًا وإنما كانوا أشرارًا.. وكان أغلبهم كما اكتشفت فيما بعد من المنحرفين أخلاقيًا واجتماعيًا، ولأنهم كانوا في حاجة إلى قائد كبير ليس في الرتبة فقط، وإنما في الأخلاق أيضًا، حتى يتواروا وراءه ويتحركون من خلاله.. وكنت أنا هذا الرجل للأسف الشديد".
ومضى: "وكانت انتخابات نادي الضباط فعلًا هي الثورة، فالملكية انتهت في مصر بعد انتخابات نادي الضباط، وحصلت على أغلبية ساحقة في رئاسة النادي، وفي 22 يوليو قررنا إذاعة البيان الأول للثورة، وطلب منا وزير الداخلية ورئيس الوزراء تأجيل إذاعة البيان فقلت: نحن حركة لا هم لها سوى إصلاح الفساد في الجيش فلا تنزعجوا، وأضفت لقد استولينا على السلطة لمساعدة الحكومة في تطهير الأمة من الفساد، ولما كانت الثورة تستهدف القضاء على الاستعمار وأعوانه بادرت في 26 يوليو 1952 إلى مطالبة الملك فاروق بالتنازل عن العرش لأنه كان يمثل حجر الزاوية الذي يستند إليه الاستعمار".
أزمة مارس بين محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، لم تكن مجرد صراع علني على السلطة بين اللواء نجيب وأعضاء مجلس قيادة الثورة، بل كانت صراعا بين اتجاهين مختلفين؛ الأول يطالب بالديمقراطية والحياة النيابية السليمة تطبيقا للمبدأ السادس للثورة، والآخر يصر على تكريس الحكم الفردي وإلغاء الأحزاب وفرض الرقابة على الصحف.
وأتت ضربة البداية في أزمة مارس من جانب محمد نجيب الذي بدأ فور عودته إلى الحكم مشاوراته مع مجلس القيادة للتعجيل بعودة الحياة البرلمانية، وفي ليلة 5 مارس صدرت قرارات ركزت على ضرورة عقد جمعية لمناقشة الدستور الجديد وإقراره، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين.
كانت هذه القرارات في صالح عودة الحياة الديمقراطية، وهنا أدرك الفريق المناوئ للواء نجيب أن كل الخطط التي أعدت للإطاحة به مهددة بالفشل، فبدأ يدبر مخططات أخرى من شأنها الالتفاف على قرارات 5 مارس والعودة إلى الحكم الفردي.
وفي 25 مارس 1954 اجتمع مجلس قيادة الثورة كاملا وانتهى الاجتماع إلى إصدار القرارات التالية: السماح بقيام الأحزاب، مجلس قيادة الثورة لا يؤلف حزبا، لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير على الانتخابات، تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا بدون تعيين أي فرد وتكون لها سلطة البرلمان كاملة والانتخابات حرة، حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار أن الثورة انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة، تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها.
وكانت هذه الأزمة سببًا في إقدام اللواء نجيب على تقديم استقالته، والتي بدأها "بسم الله الرحمن الرحيم.. السادة أعضاء مجلس قيادة الثورة.. بعد تقديم وافر الاحترام، يحزنني أن أعلن لأسباب لا يمكنني أن أذكرها الآن أنني لا يمكن أن أتحمل من الآن مسئوليتي في الحكم بالصورة المناسبة التي ترتضيها المصالح القومية، ولذلك فإني أطلب قبول استقالتي من المهام التي أشغلها، وأني إذ أشكركم على تعاونكم معي أسأل الله القدير أن يوفقنا إلى خدمة بلدنا بروح التعاون والأخوة".
وبلغة تغلفها المرارة تابع: "ما أقسى المقارنة بيني وبين فاروق عند لحظات الوداع.. ودعناه بالاحترام وودعوني بالإهانة.. ودعناه بالسلام الملكي والموسيقى وودعوني بالصمت والاعتقال.. ودعناه بالمصافحة وودعوني بإعطاء ظهورهم لي".
وبعد رحلة العذاب هذه - كما وصفها هو - رحل محمد نجيب في هدوء عن عمر يناهز 83 عامًا بتاريخ 28 أغسطس 1984 في مستشفى المعادي العسكري بالقاهرة.