رئيس التحرير
عصام كامل

خواطر الشيخ الشعراوى عن سورة "القدر".. إمام الدعاة يكشف سر نزول القرآن في الليل.. عظم على الرسول إدراك قدر هذه الليلة بذاته

 إمام الدعاة الشيخ
إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي

ليلة القدر التي نلتمسها في العشر الأواخر من رمضان كما قال عنها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان"، هي أعظم ليالي شهر الصوم قدرًا، كونها الليلة التي انزل فيها القرآن، حيث أمر الله فيها جبريل بإنزال القرآن من اللوح المحفوظ إلى مكان في سماء الدنيا يسمى "بيت العزة"، ثم من بيت العزة صار ينزل به جبريل على نبى الله محمد متفرقًا بحسب الأسباب والحوادث. فأول ما نزل منه كان في تلك الليلة أول خمس آيات من سورة العلق، لذلك فإن تفسير كلمات سورة القدر أمر مهم حتى يتيسر معرفة قدرها.


وليس هناك خير من تفسير إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي باعتباره واحدا من أشهر مفسري معاني القرآن الكريم في العصر الحديث ؛ حيث عمل على تفسيره بطريقة سهلة قريبة من لغة البسطاء ما جعله يصل لعقول أغلب المسلمين في مختلف أنحاء العالم العربي.

بدأ الشيخ الشعراوى تفسيره لسورة القدر بشرح موقعها من سورة العلق، قائلا إن سورة القدر أخذت موقعها الطبيعى من سورة العلق لأن الأخيرة لم تحدد المقروء، فالمطلوب في ذلك الوقت هو إحداث القراءة من نبى أمى، وكان المقصود بالقراءة هنا هو قراءة القرآن الكريم، وتحدث الله عن الظرف الذي نزل فيه القرآن، لذلك لم يقل "إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر" في بداية كلامه لكنه قال "إِنَّا أنزلناه " أي جاء بضمير الغيبة، وضمير الغيبة يتطلب مرجعا، واستهل الله سورة القدر "إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر "، بـ "إِنَّا" لا "أنى"، والمقصود بذلك أنه حين يتكلم الله عن شئ يتطلب تكتل صفات الجلال والجمال فيه دائما يقول "إنا"، لكن إذا أراد عز وجل أن يتكلم عن ذاته ويريد من عبده أن يتوجه إليه لا يقول "إننا نحن الله" لكن يقول" إننى أنا الله " أي عندما نتوجه إلى الله بالعباده نمنحه صفة التفرد، وحين يعرض علينا ما أنعم به علينا نلمح صفة الجمع لأن نعمه تتطلب تكاتل صفات متعددة، لكن في مقام العبادة والتوحيد والتوجه يأتى ضمير التفرد دائما، فيقول " إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي " وليس " فاعبدنا"، أما حين يريد الله عز وجل الامتنان بوجود شيء فيقول" خلقنا، قدرنا، أنزلنا".

فالقرآن الكريم يتعرض لمنهج الخلق إلى أن تقوم الساعة، ولأنه منهج وضعه الحق فلابد أن تتكاتف فيه كل صفات الجلال والجمال فلم يقل " إنى أنزلته " بينما قال "إِنَّا أَنْزَلْنَاه".

وانتقل الشيخ الشعراوى إلى حديث الله سبحانه وتعالى عن "تنزل الملائكة "، والمقصود بها "تتنزل الملائكة"، فقد حذفت تاء في "تتنزل" لأن ما بدأ بـ "تاءين" تختصر فيه تاء، فقول الله تعالى " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر" فهل المقصود "بالتنزل" هو نزول القرآن أم التنزل من كل أمر ؟، وكأن السورة متضمنة لأمرين؛ إنزال القرآن في تلك الليلة، وتقدير كل الأمور في تلك الليلة، فالملائكة المقصود بهم في القرآن هو ما يتعلق بالقرآن وبغيره.

وفى قول الله تعالى " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" بين الله لنا في مجموع ما أوصله إلينا رسول الله أنه سبحانه وتعالى خلق الزمان ولا زمان وخلق المكان ولا مكان، ثم فضل سبحانه بعض الأزمنة، ثم فضل بعض الأماكن، ثم الإنسان الذي خلق منه الزمان والمكان فضل منه البعض، فالأزمان والأماكن ليس لها خصوصية في ذاتها إنما خصوصيتها موهوبة لما وهبها الله، فقول الله "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" يدل على أن الليلة لها قدر، فكأن الليلة التي اختارها الله ليفرق فيها كل أمر حكيم اختارها لنزول القرآن وهو أكبر فرقان، وهذا يعنى أن القرآن اختيرت له ليلة لأن لها قدرا.

وهناك رأى آخر أن هذه الليلة جاء لها القدر بنزول القرآن، فليلة القدر تعدد فيها نزول القرآن، فنزل أولا من الله في أول مشهد، ثم نزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا أو إلى بيت العزة في سماء الدنيا، وبعد ذلك أنزلته السفرة على جبريل كل عام، وبعد ذلك نزل به جبريل في كل مناسبة حسب ما تقتضيه الأحداث، وتم اختيار الليل هنا لأن الليل محل السكون والهدوء، بينما النهار محل حركة.

فعندما خلق الله الليل والنهار جعل الليل أمر سلب، بمعنى أن هناك شيئا يختفى من أجل ظهور الليل، فالمقصود بسلب الشئ أن الأمر يرجع إلى طبيعته، بينما الإيجابية في إيجاد الضوء ليهيئ نهارا يساعد على الحركة، لذلك عندما امتدح الله أقواما امتدحهم بقيام الليل لأن الإنسان يكون وقتها خاليا إلى نفسه.

الشيخ الشعراوى فسر "وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ" بأن الله سبحانه وتعالى يخاطب الرسول، فإذا كان هناك علم لدى البشر فيكون عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن "وَمَا أَدْرَاكَ" تدل على أنها شئ فوق إدراكك وكأنه شئ بالذاتية، وهذا يعنى أنها تضمنت معنى فوق مدلول اللفظ الوضعى، ولا يقال "مَا أَدْرَاكَ" الا لشئ يعظم على المخاطب أن يدركه بذاته، فهناك فرق بين "ادراك" و"يدريك" فالأولى المقصود بها ما أدركت قبل خطابه لك، وجاءت في زمن الماضي لتعنى أن الله أدراه به، أما " ما يدريك" فهى نفى في المضارع بمعنى لم يعلمه الله به ويظل سرا من أسرار الكون.

وعن تفسير" لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ"، ذكر الشيخ الشعراوى آية " شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن"، وهذا يعنى أن الله حدد مقام ليلة القدر من شهر رمضان، وقد أعطى الله سبحانه وتعالى هذه الليلة إكراما لرسول الله ولأمته بحيث إذا وفق الإنسان إلى العمل فيها قياما واحتسابا لوجه الله غفر له ما تقدم من ذنبه، ولذلك جاءت الآية " لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ"، أما لماذا جاءت " ألف"، فلأن الألف عند العرب كانت أقصى عدد، وكانوا يعتقدون أن الألف هي نهاية الأرقام، ولذلك إذا زادوا عليها كان يكررونها مثل ألف ألف فلم يكن قد استحدث بعد المليون أو البليون أو المليار، إذن معناها أن ليلة القدر خير من الزمن كله.

الشيخ الشعراوى أشار إلى أن قول الله "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ " يدل على أن الملائكة نازلين لأمور، ولذلك فهم المدبرات أمرا، أي إنهم المتعلقين بالخلق، أما " الروح " فهى نوع متميز من الملائكة، والمراد بها جبريل "نزل به الروح الأمين".
وقوله تعالى " مِنْ كُلِّ أَمْرٍ" تعنى وكأنهم ينزلون بكل أمر، والأمور هي التي بها نظام الكون، فالكون يريد أمورا تتعلق برزقه من الأمطار، وأمورا تتعلق بالحروب والنكبات وبالموت "عزرائيل"، وأمور تتعلق ببقية الأعمال "إسرافيل"، فكل ملك له مهمة بالنسبة لأهل الأرض.

وفى تفسيره للآية الأخيرة من سورة القدر "سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ"، يقول إمام الدعاة إنها تعنى أن الأمور يجب أن تقاس ليس بما ترغب فيه نفسى، لكن بالنسبة لحكمة الله، فالسلام لا يتحقق إلا إذا دفع الله الناس بعضهم بعضا، ولا يحفظ توازن السلام إلا وجود قوتين، فوجود قوة واحدة منفردة يمكن لها أن تستبد، فالمصائب والأحداث التي يقدرها الناس أنها أحداث لا يعنى أنها ضد نظام السلام، فالسلام هو الأمن والاستقرار والاطمئنان والهدوء، فإذا قدر الله للإنسان أمرا فلماذا لا أقول إنه سلاما لنفسى؟ فليس ما ترغبه نفسك سلام، لكن الشئ الذي يمنع النفس البشرية عن طغيانها وتمردها وغرورها بما تعلم فهذا هو عين ميزان السلام.
ورأى الشعراوى في تفسيره أنه عندما يحدث للإنسان مصيبة يجب عليه أن يفسر الأحداث حين لا يكون له يد فيها أنها لحكمة الله عز وجل، فكل ما يجرى به القدر مما يأتى به الملائكة وتتنزل به من كل أمر سواء كان خيرا في نظرنا أو شرا فكل أمره سلام، وقوله " سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" تعنى أن الملائكة ينهلون للتسليم على المؤمنين، لأن ذلك يعتبر بالنسبة لهم تشريفا عظيما بالرسالة المحمدية وبنزول القرآن وبهذه الليلة المباركة التي هي خير من ألف شهر.
الجريدة الرسمية