رئيس التحرير
عصام كامل

الأيام الحلوة


أهرب اليوم إلى أيام الدراسة بعد أن كنت أهرب منها، فقد انقلبت حياة العربى من أحلام إلى كوابيس، ولعل جيلى شاهد على العصرَيْن.

عندما كنت صغيراً كانت الحياة أحلى. كنا نُفاخر بأننا سنحرر فلسطين وسنرى فى حياتنا حلم الوحدة العربية وقد أصبح حقيقة.


أحلام الإنجازات أصبحت كوابيس الفشل، ومبروك «الربيع العربي» على أصحابه. وليس عندى ما أفاخر به من ذكريات المراهقة، ربما باستثناء أننى أدركت فى وقت مبكر أن المدرسة توفر لى أسعد لحظات حياتي، وأن أى عمل بعدها، حتى لو كان ناجحاً، لن يوفر سعادة مماثلة.

فى العشرينات، وأنا طالب جامعى وصحافي، سجلت إنجازين، فقد قررت أن صدّام حسين «مافيوزو» ولم أزر بغداد فى أيامه وحتى اليوم، ووجدت عذراً لرفض دعوات رسمية للزيارة. كذلك قررت أن معمّر القذافى مجنون، ولم أزر ليبيا إطلاقاً فى أيامه وحتى اليوم.

أكتب ما سبق على خلفية ما أتلقى من قراء يطلبون منى أن أكتب مذكراتي، وأصدقاء يقولون إن عليّ أن أسجل ما رأيت وسمعت خلال عملي. أى مذكرات هي؟ أن أقول إن المدرسة كانت تجربة أسعد من العمل، أو إننى لم أزر بغداد أو طرابلس الغرب.

لا أعتقد أننى أنجزت ما أستحق معه أن أكتب «مذكراتي»، ولكن قد أكتب «ذكريات» عن الملك حسين والرئيس حسنى مبارك، عن الملك عبدالله بن عبدالعزيز، عن الملك الحسن الثانى والسلطان قابوس، عن الشيخ زايد، عن رؤساء وزارة عرفتهم من بريطانيا إلى بلادنا وحتى الهند، عن تحرير الكويت والعمل مع الأمير خالد بن سلطان، عن أمراء وشيوخ وحكام.

ربما فعلت وربما غلبنى الكسل، فأعود مع القارئ الى أيام المدرسة والجامعة وبعض الهذر والجد بعيداً عن مآسى السياسة العربية.

فى بيروت حزنت كثيراً عندما ألغوا الترمواي، فقد تعلمت فيه أكثر مما تعلمت فى المدرسة. وكنت صغيراً قررت أننى بحاجة إلى تعليم لأننى لست ذكياً بما يكفى لأنجح فى حياتى العامة من دون الثانوية والجامعة.

لم أكن أذكى الطلاب فى المدرسة، ولكن كان هناك دائماً مَنْ هم أغبى مني. والأستاذ قال لواحد من هؤلاء يوماً إنه غبى من شعر رأسه الى أخمص قدميه، ثم زاد معزياً: من حسن الحظ أنك لست طويلاً.

فى المدرسة لم أفهم لماذا كان الأساتذة يسألون فقط الأسئلة التى لا أعرف الجواب عنها. طبعاً «مؤامرة» والأرجح أنها صهيونية غاشمة. مرة واحدة حالفنى الحظ، فقد سألنى الأستاذ أن أعطيه مثلَيْن على ضمير منفصل. ولما كنت لا أعرف الجواب فقد سألته: مَنْ؟ أنا؟ وردّ صحيح. جيد جداً.

كانت حياة المدرسة سعيدة، وأسعد أوقاتها الإجازة الصيفية. وبما أنهم فى لبنان يحيون أعياد المسلمين والمسيحيين، فقد كانت هناك إجازة بين أسبوع وآخر، إلا أننا لم نضيّع وقتنا باللهو فى الإجازات وإنما كنا نركز خلالها على تعلم لعبة «بيبى فوت».

كانت الحياة خالية من الهموم، ملأى بالأحلام. حتى التدريب العسكرى لم يكن شاقاً، وقضينا أسبوعين فى ضهر البيدر، فى مطلع الصيف. فكان هناك أولاد يهربون ليلاً إلى بحمدون، وإذا ضُبِط أحدهم وهو عائد يأمره الشاويش فى الصباح أن يصعد الى رأس الجبل ليقبّل العلم اللبنانى المرفوع عليه. لم أحاول الهرب ولم أعاقب بالتالي.

ونقطة جد وسط ذكريات الدراسة، ففى الجامعة كان العمل لكتابة بحث يعنى قضاء ساعات فى مكتبة يافت لجمع المادة المطلوبة. اليوم فوجئت بأن الطلاب يبحثون عن المادة على الانترنت، وحسدتهم على أسباب الراحة المتوافرة لهم، ثم اكتشفت أنها أكبر مما قدّرت، فهم لا يبحثون عن مادة للبحث المطلوب، وإنما عن أفراد وشركات تكتب البحث للراغب بأجر معلوم.

كنا نعمل، ولكن على الأقل كنا نحلم ونأمل.

نقلًا عن الحياة اللندنية

الجريدة الرسمية